العنف الجنسي في 7 أكتوبر: نيويورك تايمز في مأزق

30 يناير 2024
أمام مقر "نيويورك تايمز" (مايكل سنتياغو/ Getty)
+ الخط -

امتنعت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، عن بث حلقة من البودكاست الشهير ذا ديلي، تطرّقت إلى ادعاءات "العنف الجنسي الذي ارتكبته حركة حماس يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي". وجاء حذف الحلقة في ظل استمرار الجدل حول تحقيق طويل نشرته الصحيفة قبل أسابيع، ادعت فيه "توثيق حالات العنف الجنسي" خلال عملية طوفان الأقصى.

ففي 28 ديسمبر/كانون الأول، نشرت الصحيفة تحقيقها بعنوان "صراخ بلا كلمات: كيف استخدمت حماس العنف الجنسي كسلاح في 7 أكتوبر". تحقيق الصحيفة الأميركية أجراه 3 صحافيين هم جيفري غيتلمان، وأنات شوارتز، وآدم سيلا "قابلوا أكثر من 150 شخصا في مختلف أنحاء إسرائيل"، بحسب ما أوضحت الصحيفة في مطلع التحقيق. تحقيق الصحيفة الأساسي، حصل على حملة ترويج كبيرة على مواقع التواصل، وفي الإعلام الإسرائيلي، كما أن إدارة "نيويورك تايمز" نفسها، أرسلت بريداً إلكترونياً إلى مختلف العاملين في غرفة أخبارها، مع إشادة مدير التحرير التنفيذي جو كان، الذي وصف التقرير الموسع بأنه مثال على أفضل نوع من التقارير التي تستطيع الصحيفة القيام بها. رسالة الإشادة بالتحقيق الصحافي، تزامنت، بحسب موقع ذي إنترسبت، مع رسالة أخرى تحثّ موظفي الصحيفة على تفادي انتقاد بعضهم البعض عبر برنامج داخلي تابع للمؤسسة، في إشارة إلى حدة النقاش بين الموظفين حول تغطية "نيويورك تايمز" لحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة.

العنف الجنسي والشكوك الصحافية

لكن الاحتفاء الداخلي والإسرائيلي بتحقيق الصحيفة، قابلته انتقادات كثيرة من مؤسسات نسوية عربية، ومن ناشطين حول العالم، بسبب افتقاره لشهادات حقيقية لناجيات من العنف الجنسي المفترض، إلى جانب بناء كل السردية في التحقيق على شهادات أفراد سبق أن أدلوا بمعلومات كاذبة مرتبطة بالعدوان على غزة. ولعل البيان الأبرز أصدره ائتلاف من المجموعات النسوية العربية، فنّد فيه تحقيق الصحيفة الأميركية في 13 نقطة مفصّلة، أبرزها غياب شهادات الضحايا المباشرة أو مشاركتهن في التحقيق، وعدم تقديم أي دليل أو رقم خصوصاً أن الصحيفة تقر في التحقيق أنها "لم تتحدث أي من الناجيات علنًا وأن الشرطة لم تجمع أي عينات من السائل المنوي من أجساد النساء، ولم تطلب تشريح الجثث أو تُجر فحوصات شاملة لمسرح الجريمة".

مأزق مهني

في ظل كل هذا الجدل والانتقادات الداخلية والخارجية للتحقيق المنشور، اختارت "نيويورك تايمز" إيقاف حلقة بودكاست ذا ديلي، وفق ما كشف مصدر من داخل غرفة الأخبار في الصحيفة لـ"ذي إنترسبت"، وبدأ إعداد نص جديد للحلقة نفسها. نص يتضمّن تحذيرات كثيرة، ويطرح أسئلة مفتوحة تجاهلها التحقيق الأصلي، الذي عمد إلى تقديم معلوماته كدليل قاطع على حصول العنف الجنسي بشكل ممنهج في 7 أكتوبر، وهو ما نفته حركة حماس بشكل متكرّر، ولم يقدّم عليه حتى الآن أي دليل فعلي. لكن النص الجديد بدوره، لا يزال محل نقاش في المؤسسة، ولم يبثّ بعد، خصوصاً أن العاملين في البودكاست ومعهم الصحيفة، وجدوا أنفسهم في مأزق حقيقي: هل ينشرون النسخة القديمة التي قوبلت بالانتقادات ووثقت أخطاؤها؟ أم ينشرون النسخة الجديدة، ما يطرح أسئلة حول مصداقية الصحيفة في تقريرها الأصلي الذي نشر في 28 ديسمبر الماضي؟ هذا المأزق تعززه تجربة سابقة للصحيفة مع بوكاست الخلافة، الذي كان فضيحة مهنية كبرى عام 2020 بعدما تبيّن أنه بُني على شهادة كاذبة.

التغطية المنحازة

بينما يتواصل الجدل حول الصيغة الأنسب لبث حلقة البودكاست، تعيش الصحيفة على وقع انتقادات قاسية تطاول تغطيتها للعدوان الإسرائيلي المتواصل منذ 7 أكتوبر على قطاع غزة. فالصحيفة الأميركية الأشهر، اختارت مع بدء العدوان الانحياز التام للرواية الإسرائيلية. ووفقاً لتحليل لموقع ذي إنترسبت الإخباري نُشر في التاسيع من الشهر الحالي، فقد أظهرت تغطية العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة في صحف نيويورك تايمز وواشنطن بوست ولوس أنجليس تايمز، تحيزاً ثابتاً ضد الفلسطينيين. ولم تُعِر وسائل الإعلام التي تؤدي دوراً مؤثراً في تشكيل وجهات نظر الأميركيين حول العدوان الإسرائيلي على غزّة سوى القليل من الاهتمام للتأثير غير المسبوق للحصار والقصف الإسرائيلي على الأطفال والصحافيين.
وأشار التحليل إلى أحد العناوين الرئيسة النموذجية لصحيفة نيويورك تايمز، الذي نُشر في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني حول عملية طوفان الأقصى: "لجؤوا إلى ملجأ مُحصّن بحثًا عن الأمان، لكنهم قُتلوا فيه". وقارنت "ذي إنترسبت" هذا العنوان بأكثر عناوين "نيويورك تايمز" تعاطفاً مع الفلسطينيين، الذي نُشر في 18 نوفمبر: "الحرب تحوّل غزّة إلى (مقبرة) للأطفال". توجد علامة الاقتباس حول كلمة "المقبرة" لأنها نُقلت عن الأمم المتحدة، ويُذكر فعل القتل بصيغة المبني للمجهول. لا تستخدم الصحيفة في قصتها حول الشهداء في غزّة أي مصطلحات عاطفية يمكن مقارنتها بتلك الواردة في قصتها حول "طوفان الأقصى".

كما أشارت الصحيفة إلى الشباب الإسرائيليين على أنهم أطفال، بينما أشارت إلى الأطفال الفلسطينيين على أنهم "تحت سن 18 عاماً". وظهرَ هذا التجاهل للأطفال الفلسطينيين بوضوح خلال المفاوضات حول تبادل الأسرى، إذ أشارت "نيويورك تايمز" في إحدى المقالات إلى تبادل "النساء والأطفال الإسرائيليين" بـ"النساء والقُصَّر الفلسطينيين". وأورد التحليل أن الأطفال الفلسطينيين قد أُشيرَ إليهم في المقالة نفسها باسم "الأطفال"، ولكنه كان في سياق تلخيص النتائج التي توصلت إليها مجموعات حقوق الإنسان.

الصغوط من "كاميرا"

منذ سنوات تلعب منظمة "كاميرا"، وهي واحدة من جماعات الضغط المناصرة للاحتلال، دوراً بارزاً في توجيه التغطية الإعلامية لصالح إسرائيل. ومنذ إنشائها عام 1982، نجحت "كاميرا" في الضغط من أجل إجراء مئات التصحيحات في وسائل الإعلام الكبرى، سعياً إلى توضيح الخط المؤيد لإسرائيل في التقارير الإخبارية والافتتاحيات. كما شوهت سمعة الصحافيين الذين لا تتفق مع عملهم (آخرهم صحافيون في الخدمة العربية في "بي بي سي")، وأطلقت حملات مقاطعة ضد المؤسسات الإخبارية التي تعتقد أنها لا تستجيب بما يكفي لطلباتها. في الأشهر القليلة الماضية، فرضت المجموعة تغييرين على الأقل في "نيويورك تايمز"، فتوقفت الصحيفة الأميركية عن استخدام تعبير "الاحتلال" عند الإشارة إلى الجيش الإسرائيلي في الأراضي المحتلة عام 1967. وفي 10 نوفمبر الماضي،  أجرت تصحيحًا لجملة واردة أشارت إلى أن "عدد الضحايا المدنيين في غزة قد يكون أعلى من المعلن عنه".
تأثير "كاميرا" على الصحيفة، واضح حتى في اللغة التي تستخدمها الصحيفة في وصف المأساة الإنسانية في غزة. إذ غالباً ما تستخدم لغة عاطفية عند الحديث عن يوم 7 أكتوبر، والقتلى الإسرائليين الذين سقطوا، بينما تتفادى استخدام نفس اللغة العاطفية لوصف الكارثة الإنسانية في القطاع. وهو ما يبدو "طبيعياً" إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن والد جو كان، مدير التحرير التنفيذي في الصحيفة، كان عضواً لسنوات طويلة في مجلس إدرة "كاميرا"، وبالتالي فإن تأثر كان بجماعة الضغط، وبموقفها، ينعكس بشكل واضح خلال التغطية الحالية لحرب الإبادة، ويجعل إمكانية بث حلقة من بوكاست ذا ديلي، مع بعد نقدي لاتهامات العنف الجنسي، أمراً مستبعداً.
 

امتنعت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، عن بث حلقة من البودكاست الشهير ذا ديلي، تطرّقت إلى ادعاءات "العنف الجنسي الذي ارتكبته حركة حماس يوم 7 أكتوبر/ تش
المساهمون