السخرية في الموسيقى الروسية: دمعتا شوستاكوفيتش

05 مارس 2023
ديميتري شوستاكوفيتش أثناء حصار لينينغراد (Getty)
+ الخط -

غصّت أخيراً وسائل الإعلام بالمشاركات وردود الفعل حول مقطع فيديو دعائي بثّته وزارة الخارجية الروسية، تزامناً مع مرور عام على الحرب على أوكرانيا، برفعه على منصّات وسائل التواصل الاجتماعي، من حسابات سفاراتها حول العالم، باللغة الإنكليزية وتحت عنوان Time To Move to Russia (حان الوقت لأجل الانتقال إلى روسيا).

إلى جانب أن أحداً لم يخف إعجابه ببراعة الإخراج والجودة العالية للإنتاج، كثرت التحليلات والتأويلات لكلّ من الرسائل الجلية والخفية التي تضمنها الفيديو، ومدى الحذق في إيصالها إلى كلّ من وعي المشاهد ولاوعيه على حدٍّ سواء. كالعنوان الفرعي مثلاً Winter Is Coming (الشتاء قادم)، المقتبس عن السلسلة التلفزيونية الشهيرة "صراع العروش" Game of Thrones، في إشارة إلى المخاوف من عوز الدفء خلال فصل الشتاء في بلدان أوروبا الغربية، نتيجة النزاع مع روسيا، مزوّدها التقليدي بالطاقة.

أضف إلى ذلك من جهة دغدغة مشاعر اليمين الغربي الجديد، بالإشارة إلى استفحال خطاب اليسار التقدمي الجديد، مقابل مجتمع روسي شرقي متوازن، ملتزم بالتقاليد ومتمسك بالقيم الاجتماعية المحافظة، ومن جهة أخرى دغدغة مشاعر اليسار القديم، وذلك بعرض تماثيل القائد الثوري لينين، ونقوش المطرقة والمنجل، رمز النظام الشيوعي، في إشارة نوستالجية إلى مجد الاتحاد السوفييتي الغابر.

إلا أن أكثر ما استوقف المراقبين الغربيين في شكل الفيديو ومضمونه مُثيراً الحيرة، هو عنصر السخرية الذي، وإن بصورة ضمنية، يكاد يشكل موضوعة رئيسية. إذ كيف لدعاية سياسية أن تسخر ليس فقط من الجهة المعنية بالمادة الدعائية، أي "الآخر" الغريم، وإنما أيضاً "النحن"، أي الجهة التي يُمثَلها الفيديو وينطق باسمها.

أمرٌ قد يدعو إلى الغرابة، إذا نُظر إليه من زاوية الثقافة السياسية الغربية، القائمة على جدّية الخطاب وصدقه، على الأقل ما ظهر منه للرأي العام، بالأخص في زمن الأزمات والحروب. أما بالنسبة إلى الروس فالأمر مختلف. السخرية عندهم ملح الحياة وسكّرها، وموسيقاهم تزخر بأمثلة على ذلك.

بحسب ما رواه ابنه، فإن المؤلف الروسي ديميتري شوستاكوفيتش (1905 - 1975)، لم يذرف الدمع سوى مرتين في حياته، مرة حين توفيت والدته، وأخرى حين انتسب إلى الحزب الشيوعي الحاكم. خلافاً لمُجايليَه بروكوفييف ورخمانينوف اللذين هجرا روسيا مبكراً بُعيد الثورة البلشفية، بقي شوستاكوفيتش في أرض الوطن، ليلقى شتى صنوف المضايقات والملاحقات، التي انتهت بإذعانه وقبوله الانخراط في صفوف الحزب، خشية أن يُمنع من ممارسة التأليف، أو أن يُمنَع من تُقديم أعماله.

على الرغم من انضوائه، لغاية البقاء، تحت جناح المؤسسة الرسمية، لم يمنعه ذلك من إشهار سلاح السخرية في وجه السلطة، وإن بأسلوب مجازي وبأدواتٍ موسيقية، وقد شكلت الإيحاءات الهزلية مكوناً أساسياً في كل أعماله. من أكثرها جلاءً استخدامه موضوعة المارش العسكري؛ إذ شكّلت عروض الجيش الأحمر في الساحة الحمراء، وهو يُسيّر مواكب منصّات الصواريخ العملاقة، أهم رسائل الدعاية السياسية، سواء نحو الداخل المحلي أو الخارج العالمي.

هارمونياً، عن طريق استخدام توافقات نغمية شاذة وناشزة، وتوزيعياً بالمبالغة في شدة الصوت وحدّته الناتجة عن إشراك مجاميع آلات النفخ النُحاسية، يُضاف إليها قرع الطبول وصفق الصنوج، صوّر شوستاكوفيتش مشاهد العرض العسكرية موسيقياً بطريقة أقرب إلى أن تكون كاريكاتورية، كما في الحركة الختامية من السيمفونية التاسعة. فليست موسيقى المارش صدى لعرضٍ تنفذه جيوش جرّارة، وإنما فلول مهرجين، مع الإشارة إلى أن العمل قد أُنجِز سنة 1945 والحرب العالمية الثانية تضع أوزارها مُعلنة نصر الحلفاء، ومن بينهم الاتحاد السوفييتي، بعدما فقد قرابة 30 مليوناً من أبنائه.

خَلَف شوستاكوفيتش، المؤلف الحدائي ألفرد شنيتكه Alfred Schnittke (1934-1998)، كان قد أخذ عنصر السخرية المستتر في الموسيقى الروسية إلى حدود أقصى وأبعد. علاوة على إعادة تدويره لموضوعة العروض العسكرية الكاريكاتورية، خصوصاً في أعماله السيمفونية، تتناهى السخرية لديه من الموسيقى ذاتها بوصفها تراثاً وهوية ثقافية. حقبوياً، فإن تزامن حياته ونشاطه الإبداعي مع تحولات كبرى ألمّت بالاتحاد السوفييتي في بداية عقد الثمانينيات، مع ظهور علامات التآكل والإنحدار في نظامه السياسي والاقتصادي، قد أدى إلى توجيه السخرية نحو مفاهيم فلسفية وجودية كالذاكرة واغتراب الهوية.

في عمل كتبه بدايةً سنة 1976 لخماسي مؤلف من آلة بيانو ورباعي وتري، ثم أعيدت كتابته لتشكيل أوركسترالي ليُعنون بـMemoriam، وظّف شنيتكه نهجاً  تشكيلياً ألا وهو "تعدد الأساليب" (Polystylism). من خلاله، يُحدث تنافراً ساخراً ما بين الحقب الموسيقية المختلفة التي مثّلت سيرورة الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، من رقصات باروك تعود بالأذن إلى القرن السادس عشر، ورقصات فالس تقفز بها إلى القرن التاسع عشر، رُكّبت بعضها فوق بعض بطريقة أقرب إلى الكولاج، فيما قماشة اللوحة في الخلفية سوداء قاتمة.

سواء عند السلف، شوستاكوفيتش، أو الخلف، شنيتكه، يمكن إدراك خاصية مشتركة لدى الطريقة التي وُظّفت بها السخرية موسيقياً وأدبياً، ألا وهي تداخلها وتناغمها التام مع عناصر الجدّية؛ إذ لا حدود مفاهيمية أو صياغويّة واضحة تفصل ما هو جاد ومأساوي عما هو ساخر وهزلي، وتلك هي طريقة الروس في المكابدة، سواء مع شدّة الحياة أو الاستبداد السياسي على مدار تاريخ البلاد الزاخر بالمظالم والمآسي.

خلال مناظرة أدارها الأكاديمي جيرمي ماثيو غليك، عُقدت سنة 2022 في بيت الرئيس الأميركي الراحل فرانكلين روزفلت بولاية نيويورك، ذهب الفيلسوف السلوفيني النجم سلاڤوي جيجك في تحليله الحقبة السوفييتية إلى أبعد من ذلك، مشيراً إلى أن السخرية مع صعود جوزف ستالين إلى الحكم، وعلى طرفي الجدلية ما بين نخبة السلطة وعامة الشعب، قد مثّلت شرطاً أساساً لسير النظام السياسي. فقد اقتضت المفارقة حينذاك أن توجّب على الكادر الحزبي الصالح ضمنياً، ألّا يأخذ أيديولوجيته السياسية كليّاً على محمل الجد.

المساهمون