بمناسبة عيد ميلاده الثالث والثمانين، بدا كأن الجميع يلوّح له بالوداع. المقصود، هنا، الممثل المصري عادل إمام، الأكثر شهرة وانتشاراً في تاريخ السينما العربية، الذي كسر مواصفات النجم، بعد إسماعيل ياسين حتماً وقبل أحمد زكي، فإذا هو يشبه الرجال الذين تضرب أكتافهم أكتافنا ونحن نمشي في مدننا، المكتظة والبشعة والمتجهمة، والتي تحتاج إلى من يُضحكها لتصبح أخفّ، وعلى بعض التودد لمن صدف أنهم سكانها. عادل إمام فعل ذلك، سواء أحببناه أم لا، سواءً نظرنا إليه باعتباره منفذاً لأجندات السلطة في بلاده، أم مستغلاً لحاجة هذه السلطات إليه، ما أتاح له أن يوائم بين طموحه لإنتاج فن يُرضيه، وبكثير من شروطه، وبين استغلال السلطات لشهرته الطاغية لتمرير بعض ما تريد.
من بين عشرات النجوم الذين أنتجتهم السينما المصرية في تاريخها، يصح أن نتعامل مع عادل إمام باعتباره ظاهرة وليس نجماً وحسب، فمعه لم يعد بطل الفيلم وسيماً بالضرورة، بل واحداً من الناس، ولم يعد الإضحاك بهز الجسد أو تغيير ملامح الوجه وإطلاق الإفيهات، بل نتيجة اللعب على تناقضات الموقف. ومعه وسواه بالتأكيد لم تعد السينما جزءاً من أدوات الأنظمة للتحكم والسيطرة والتوجيه، بل في حالة اشتباك، وهو ما نجح فيه يوسف شاهين مثلاً وعاطف الطيب وعلي عبد الخالق، وقلة سواهم، لكن من دون أن يحققوا ما حققه الممثل عادل إمام، الذي جعل الفيلم مرآة أحلام وأوهام الطبقات الفقيرة أكثر من مخرجين كبار كانت لديهم مشاريعهم ومقارباتهم التقدمية، إذا صح الوصف لمشكلات مجتمعهم ومواطنيهم. كان هدفه هو الإمتاع، أي الاكتفاء بالدور الوظيفي الأساسي للفنون، وعدم الاكتراث بأكثر من ذلك كدفعك إلى التأمل أو التساؤل أو التفكير بالموت مثلاً، بل دفعنا إلى الضحك أو التطهّر، مع تمرير رسالة هنا أو هناك لإرضاء السلطات، أو بوحي منها أو تودداً لها.
بهذا، كانت أفلامه في "المنتصف"، فلا هي ثورية وتحتاج مشاهداً بذوق رفيع، ولا هي ساذجة تخاطب مشاهداً لا يُعنى بوظائف الفن المتعددة. ولهذا السبب تحديداً شاهدها الجميع. وكان مثل أفلامه، فهو ليس محمود مرسي بموهبته العظيمة، وليس إسماعيل ياسين أو فؤاد المهندس أو حتى سمير غانم، حيث الإضحاك ليس في الموقف والبناء الدرامي، بل جراء حركات في الجسد أو غرابة في الملابس وما شابه ذلك.
هذا يفسر ربما انتشاره الاستثنائي وتحوّله إلى ظاهرة، فمسيرته الفنية تواصلت من دون انقطاع، وفي ذلك ذكاء يُحسب له، وواكبت تحوّلات المجتمع والسلطة في بلاده، ما جعل وجوده ضرورة، كما أن أعماله تنوعت ولم تنحصر في الكوميديا، بل إن اللافت في مسيرته التي شارك خلالها في أكثر من مائة وعشرين فيلماً، أنّ أدواره الكبيرة لم تكن كوميدية، مثل "الحرّيف" (إخراج محمد خان، 1983) و"الغول" (إخراج سمير سيف، 1983)، إضافة إلى "المشبوه" و"حب في الزنزانة" و"إحنا بتوع الأوتوبيس".
في هذه الأفلام وسواها، جسّد عادل إمام دور المواطن العادي الذي يدفعه الفقر أو العسف أو توحش الفساد إلى اللجوء إلى الذراع (كما تصفها العامية المصرية) لانتزاع حقه والانتقام من ظالميه، وحتى في أفلامه المشتركة مع وحيد حامد كاتباً، وشريف عرفة مخرجاً، فإنّ مقاربتها للإرهاب كانت تنحاز إلى المواطن العادي، بل كانت تسخر من المقاربة الأمنية لظاهرة الإرهاب، وإنْ كانت لا ترى بديلاً عن النظام كحلّ للحفاظ على تماسك المجتمع بمكونيه المسلم والمسيحي.
وفي أفلامه كلها، بخاصة في الثمانينيات والتسعينيات، حيث صعوده الكبير، كان سقفه أكبر مما يحظى به ممثلون آخرون بسبب شهرته، وحرصه على إبقاء خطوطه موصولة مع السلطات. فما تريده الأخيرة يفعله بشروطه غالباً وبالحد الأدنى الذي لا يحوّل الفن إلى بروباغاندا مباشرة وفجة، على أنّ هذه المعادلة التي جعلته زعيماً لعقود، تغيّرت على ما يبدو في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي انتقد علناً فيلماً مثل "الإرهاب والكباب"، ورأى أنه شجّع الإرهابيين وليس العكس، وتزامن هذا مع تقدم عادل إمام في السن. كأنّ هذين العاملين (عدم حاجة النظام الحالي له وشيخوخته) علامتان على انتهاء دوره، وأنّ عليه أن يغادر المشهد، ما جعل الاحتفاء الكبير بعيد ميلاده أشبه بتلويحة وداع، فخشبة المسرح لم تعد تحتمل زعيمين.