الروماني رادو جود: لا تتوقّع الكثير من نهاية العالم

24 سبتمبر 2023
نال جوائز عدة عن فيلمه في مهرجان لوكارنو (الملف الصحافي)
+ الخط -

التوقّع كبيرٌ عند بدء مشاهدة فيلم الروماني رادو جود. سُمعتُه تسبقُه. أفلامه تحظى بإشادات نقّاد، وتتسابق عليها مهرجانات كبرى، وتُمنح جوائز مهمّة. كلماته وحواراته الصحافية وخطاباته تُسهم في لفت الأنظار إليه، لتمتّعها بصراحةٍ ودعابة. مهما تكرّر ظهوره في المسرح نفسه لتسلّم أكثر من جائزة، كبيرة أو صغيرة، عن فيلمٍ واحد له، فإنّ تصريحاته اللاذعة تحمل، كلّ مرة، شيئاً جديداً في طرافتها وسخريتها.
تأكّد هذا في "مهرجان لوكارنو السينمائي" (سويسرا)، في دورته الـ76 (2 ـ 12 أغسطس/آب 2023)، مع نيله جوائز عدّة عن "لا تتوقّع الكثير من نهاية العالم" (المسابقة الدولية)، وتحديداً مع تسلّمه جائزة لجنة التحكيم الخاصة، إذْ رأى واجباً عليه أنْ يحثّ البلد المضيف، المعروف بحياده السياسي، على عدم الحياد إزاء حرب روسيا على أوكرانيا.
مع شيءٍ من إطالة وتفاوت في قيمة المَشاهد ومتعتها، يسرد جديد (2023) رادو جود، في 160 دقيقة، حكايات عدّة، تنتقل بين فنّ صنع الأفلام، وهشاشة ظروف العمل، واستغلال الاقتصاد المعولم، الذي بلغ رومانيا. العمّال فيه لا شيء يحميهم ويدافع عنهم. يتعرّضون لضغوطٍ إضافية، واهتمام كاذب من أرباب العمل، يرتكز على مفهوم "التواصل". هذه الكلمة السحرية التي تستخدمها الشركات الكبرى، كما السياسيون، ولو عنَتْ الكذب على الناس، بل يُفضَّل أنْ يجري هذا التواصل معهم بالكذب عليهم.
تصعُب متابعة الفيلم منذ بدايته، ويحصل شيءٌ من ارتباك في تلقّيه، لما يتضمنه من مزجٍ لأساليب سردٍ عدّة، وأنواع سينمائية متباينة، ومستويات تأويل متنوّعة. يلجأ رادو جود إلى هذه التقنيات السردية، ويدعمها بمراجع تاريخية وأزمنة مختلفة، بانياً فيلمه على جزأين يتداخل أحدهما بالآخر، وكلّ منهما ينتمي إلى أسلوب سينمائي مختلف. استعان بمَشاهد مُلوّنة من "آنجيلا تمضي قُدماً" (1981) للروماني لوسيان براتو، كان يقطع بها، بشكلٍ مُفاجئ، مَشاهد بالأسود والأبيض في جديده هذا، فتظهر بتناقض تام مع صورة ينقلها في جزءٍ حقّقه عن عالم معاصر. تفاوتٌ كبير بين فيلم كلاسيكي قديم، مُصوَّر بكاميرا 35 مم، تتحرّك على مهل، وتأخذ وقتها، فتمنح صورة نقية ثابتة عن أجواء هادئة لبوخارست نظيفة ومرتّبة، ولشخصيات عاملة فيها تتّسم بالاتزان. في مقابل هذا، يأتي جزء رادو نقيضاً له، مع صورة مشحونة بعناصر لا تكفّ عن الحركة، مشوّشة أحياناً، ومُلتقطة بكاميرا 16 "أو هاتف"، تهتزّ بسرعة في مدينة مزدحمة لاهثة، كأنّها تُعبّر بلونين غائمين عن دوّامة الحياة الكئيبة، المفروضة على الشخصيات.
لكنْ، ما دعاه إلى الجمع بين الفيلمين، كما يقول، سعيٌ منه لإعطاء التوليف دوره كوسيلة للتحليل والمقارنة، وليس فقط لتقطيع المَشاهد وربطها. هذا حاصل. المقارنة تفرض نفسها في فيلمٍ يبدو بمكوّنَيه، عبْرَ شخصية امرأة عاملة (سائقة)، كأنّه حوار بين عصرين، ومرايا تعكس صورة لرومانيا القديمة ورومانيا المعاصرة، ورحلة بين المجتمع الشيوعي والمجتمع الرأسمالي ما بعد الشمولي. هناك شخصية نسائية رئيسية من عصر ولّى، وأخرى من هذا العصر. يُترك أمر المقارنة بينهما، والتحليل والتدقيق، للمُشاهد، بعيداً عن الانحياز، فالاثنتان ضَحِيّتا استغلالٍ في الشغل، وإنْ اختلفت درجته. والمجتمع الذي بدا، ظاهرياً، ساكناً ومرتباً في مجمل مشاهد الفيلم القديم، يحتاج إلى تدقيق أكبر، لن يفوت المُشاهد معه لقطات عابرة في العمق لصفوف طويلة لمواطنين ينتظرون الحافلة، أو لشراء الطعام. أمورٌ كهذه ميّزت الحقبة الشيوعية.
بطلة رادو تُدعى أيضاً آنجيلا (إلينكا مانولاش، في أداء لافت للانتباه). أربعينية، تعمل فوق طاقتها، وتتقاضى أجراً منخفضاً. يسرد الفيلم يومَ عمل يتكرّر في حياتها، مدّته 16 ساعة. لا وقت لديها لتلتقط أنفاسها. تقود سيارتها في أنحاء بوخارست، لتجمع مواد مُصوّرة لشركة تصوير أفلام رومانية، مُتعاقدة مع شركة نمساوية متعدّدة الجنسيات، لتشكّل محتوى فيلمٍ وثائقي عن الأمن الصناعي، وأخطار عدم التزام شروطه. يُستخدم الفيلم دليلاً دامغاً على براءة الشركة العالمية مما يحصل للعمّال في مصانعها الرومانية.
آنجيلا مثقّفة، وهذا يظهر في كتب فلسفية موضوعةٍ على طاولتها، ومن طريقة أدائها عملها. بعد ساعات نومٍ قليلة، تبدأ يومها مُتعَبة، وتتساءل عن كيفية تمضيتها هذا اليوم الملعون. تتنقّل، في شوارع مزدحمة بحركة مرور، من عاملٍ مُصابٍ إلى آخر، لشرح أهمية تطبيق قواعد السلامة، ينتهي الأمرُ به (المُصاب) طبعاً إلى قول ما تريد الشركة أنْ ينطق به، أي مسؤوليته الشخصية عمّا حصل له. وهذا (هنا أهمية الأمر) يأتي رغم تحذيرات مسؤوليه، وحرصهم الشديد على سلامته. بنحوٍ أو بآخر، سيكون الحقّ دائماً على العامل.


كلّ تدخّلات آنجيلا، عند تصوير هؤلاء العمّال، تحثّهم على قول المطلوب منهم، وإرشادهم إلى العبارات الملائمة التي تُحقّق هدف الفيلم الوثائقي. كما يبدو، تقوم بهذا رغماً عنها، فهي غير مُقتنعة به. تؤدّي عملها وهي تلعن، هازئة، كلّ شيء: يومها، والسائقين في الشارع، ورؤساءها المحليين والعالميين، فهي تُدرك استغلالهم لها وللعمّال. لكنّها تسعى لتفريغ طاقاتها وحيويتها ومشاعرها في تعليقاتها الذكية وانتقاداتها وسخريتها من العالم المعاصر، عبر شخصية بوبينا (رجل) أوجدتها على الـ"تيك توك"، وأيضاً في مضاجعة حبيبها في السيارة بين مشوارين، وشتم رؤساء محليين متعاقدين مع شركات عالمية كبرى، يخضعون لها.

حوار "لا تتوقّع الكثير من نهاية العالم" يعكس، بدقّة متناهيةٍ في معظمه، ما يحصل من تلاعب بالكائن البشريّ. بعض أسماء شخصياته يُحيل إلى رموز تاريخية وثقافية، كمديرة التسويق الألمانية "غوته"، والرئيس التنفيذي للشركة متعدّدة الجنسيات، الذي منحه رادو جود اسم حاكم بولندا في فترة ألمانيا النازية. ويعتمد أسلوباً ساخراً وطريفاً للإشارة، بذكاء وانتقاد لاذِعَين، إلى وسائل ناعمة لتدخّل مسؤولي الشركة النمساويين والألمان، لدفع المُصابين إلى التفوّه بما يريدونه هم. الحوار بين الشركة الأمّ ومرؤوسيها الرومان، عبر شبكة الإنترنت، من أفضل الحوارات وأكثرها إثارة للإعجاب والدهشة والابتسامات، لما تُبديه من عقليات العالم المعاصر، المُستغلّ والمتعالي، الذي لا يعبأ بالقيم الإنسانية.

المَشاهد الأخيرة، الخاصة بتسجيل فريق التصوير الروماني أقوال مُصابٍ، مُصرّ على كشف حقيقة مسؤولية الشركة في حادث إصابته بشلل ساقيه، لتضمينها الفيلم الوثائقي، هذه المَشاهد دليل جليٌّ وتعبير جوهري على محاولات إفراغ الإنسان من أي قيمة معنوية، ومن حقيقة أقواله، عبر إعادة اللقطات في كلّ مرة يتلفّظ فيها العامل بحرفٍ زائد على المطلوب منه. الشركة الألمانية اختارت هذا الرجل تحديداً ليكون بطل فيلمها الوثائقي، لتتبدّى عبره كلّ قدراتها في تحوير أقوالٍ، وتلاعب بحالاتٍ، وتزييف حقائق.

المساهمون