هزمت العذراءُ الطاهرة منافستَها اللعوب باربي في الدخول الثقافي، وفي القاعات السينمائية، في سبتمبر/أيلول 2023. إنّه "الراهبة 2" (2023) لمايكل تشايفس، الذي يُعرض 9 مرّات يومياً في مجمّع سينمائي واحد في كازابلانكا، بينما توقّف عرض "باربي" (2023) لغريتا غرويغ.
يستلهم "الراهبة 2" قصّةً جرت أحداثها عام 300 م، فينقلها إلى الشاشة الكبيرة عام 2023. يُذكّر بحكاية العذراء القديسة لوسي، شفيعة المساكين والشهداء والمكفوفين، التي منحت حياتها لله، تتصدّق بمالها، ولا تشتري ملابس وردية. هذا أمرٌ ذو دلالة: أنْ تتفوّق بطلة العفّة على "باربي" في القاعات السينمائية، في هذه الأيام، التي يزعم عشّاق الهولوغرام أنّ القيامة قريبة. كلما كثرت الزلازل، زاد الخوف. ليس من مصلحة البشر معرفة توقيت القيامة. إذا عرفوا، سيُجنّون. هذا تستغلّه أفلام الرعب والرقيّة، كـ"الراهبة" (2018) لكوران هاردي، وآخرها The Exorcist: Believer لديفيد غوردون غرين (2023). يشتدّ تأثير هذه الأفلام حين تُعرض بتقنية الأبعاد الأربعة. التكنولوجيا ليست مجرّد آلة.
حين استقلّت الراهبة إيرين (تايْسا فارميغا) القطار في رومانيا، تحرّك كرسي المُشاهد كأنّه في وسط المشهد. حين تهبّ ريح على وجهها، يشعر المُشاهد بريح في وجهه. صارت المؤثّرات الصوتية والبصرية الافتراضية حركية محسوسة. ما تعيشه الراهبة على الشاشة يعيشه المُشاهد في مقعده. صارت المُشاهدة تفاعلاً حيّاً. إنّها مشاهدة من الداخل، على كرسيّ مُتحرّك. صار الخوف يصدر من كرسي المُشاهد. كرسي له دكّة، يضع عليها المُشاهد قدميه كي ينفصل عن الأرض، ويندمج في الشاشة. أُخرِج المُشاهد من حالة الأمان التي اعتادها كمُراقب عن بعد. لذلك، ثمن دخول القاعة مُضاعف.
مُدهشةٌ المُشاهَدة بأربعة أبعاد لأوّل مرة. يصدر الرعب من الكرسي لا من الشاشة فقط. هذه كتابة عن مُشاهَدة تفاعلية. النقد السينمائي يشتبك مع مادته اللغوية والبصرية. كلّ نقد لا شواهد فيه من المتن، الذي ينقُده، مجرّد استظهار محفوظ، وليس نقداً. هذا النص استقراء حيّ للمقعد والشاشة التي يعرض عليها "الراهبة 2" (أو "الراهبة: لعنة القديسة ـ لوسي" بحسب العنوان الفرنسي).
"الراهبة 2" فيلم مُتسرّع، يركب على نجاح أفلام سِيَر الراهبات في بلد علماني. فقيرٌ على مستويي تماسك الأحداث والشريط الصوتي. هناك ضعف في اشتباك الحدث اللاحق بالحدث السابق عليه. غالباً يبدو المشهد الموالي مُقحماً ومُستقلاً. تضعف الوحدة الموضوعية والأسلوبية حين يُصوَّر مشهدان متتابعان بفاصل زمني كبير. يسوء الأمر حين يعتمد المخرج على ممثلين لا يتوفّرون على المواهب والمعارف الضرورية للأدوار المعقّدة. لذلك، لا يسترجعون الحالة المزاجية نفسها التي كانوا فيها، حين يستأنفون التصوير بعد توقّف.
اقتباس السرد الديني وتصويره غاية في التعقيد والعمق والبساطة والتجذّر في الوعي الجمعي. يصعب إنتاج معرفة سينمائية بالمضامين والأشكال السردية البصرية عن العصر الوسيط. لذلك، يشعر المشاهدون، بسهولةٍ، أنّ الممثل الذي يؤدّي دور الراهب، عدو الشيطان، غير مُطّلع على الأدبيات الدينية لتجسيدها على الشاشة.
يخطّط الشيطان ليصير ملاكاً، فيسترجع نفوذه الذي فَقَده بعدما طرده الرّب الغاضب من الجنة. وسيلته عينا القديسة لوسي. تطارد لعنة القديسين الشياطين لتحبط أعمالهم. تجري المطاردات في مبانٍ قديمة مهجورة ومخيفة. الفتنة نائمة في أقبية مظلمة، يوقظها فضوليون يتسلّلون خلف الأبواب المغلقة لأقبية الكنائس، التي كانت سجوناً للمجانين، أي الذين كانوا يشكّون في تعاليم الكنيسة، كما شرح فوكو في "تاريخ الجنون" (1964 و1972). يليق الرعب بأقبية مهملة، لم تصل إليها الكهرباء. يسمع صوت سحب مخاط في أنف حصان (لوحة "كابوس" للرسّام يوهان هينريش فوسلي، 1781). تهبّ ريح، فيحدس المُشاهد الشرّ المقبل. يُعاقَب الشرّ في بيت الرب باللعنة. تمسخ بركةُ القديسة الروح الشيطانية. اللعنة والبركة أفقيان عابران للأزمنة. اللعنة عمودية مكانياً، فالإنسان الملعون في الأرض عينه دائماً إلى السماء، حيث الجنة. هذا السرد الديني يصنع جاذبية سلسلة أفلام الراهبات والرقاة (Exorcist)، حتى لو كان التنقيط الفنّي ضعيفاً.
ما الجذر الفكري لـ"الراهبة 2"؟
بُني الفيلم على فرضية أنّ عيون العذارى المؤمنات سيهزمن الشياطين. لتحقيق ذلك، تتسلّح راهبة الرقيّة الشرعية ببركَة جسد المسيح ودمه، اللذين يعملان في العصر الحديث. تُرحَّل الراهبة إلى رومانيا، حيث نشأت أسطورة مصاص الدماء دراكولا. تقحم شخصية دراكولا في الأفلام بغرض تشبيك السرد الديني الكاثوليكي مع التراث الحكائي لأوروبا الشرقية. للإشارة: ألقيت الراهبة لوسي في النار، فصارت برداً وسلاماً عليها. تتداخل هنا سرودٌ عن أنبياء وقديسين وأفلام.
هذا تراث سردي أوروبي لاتيني، سجّله يعقوب الفوراجيني في "الأسطورة الذهبية" (1250). يحكي المناقبي الإيطالي سيرة عذراء صارت عمياء حفاظاً على عفّتها التي وهبتها لله. للتحقّق من الحكاية، ذهبت الراهبة إلى صاحب مكتبة يعمل على تحقيق أرشيف الكنيسة الكاثوليكية. لزيادة التشويق، أُقحِمَت شابة أميركية شكّاكة، لاختبار ادّعاءات الكنيسة الكاثوليكية. هذا منظور ديني عميق لم يهضمه مخرج شاب، تربّى في مجتمع علماني. طمست فترة العلمنة القصيرة تأثير الكاثوليكية العميق في الوعي الجمعي الغربي والكوني. فالكاهنة شخصية مركزية في كلّ الأديان والمجتمعات القديمة. الجديد في حكاية الراهبة، زمن العلمانية، كامنٌ في النهاية السعيدة للبطل، الذي نجا من رجس الشيطان، وحصل على حبيبته.
الحب في زمن الحداثة ليس خطيئة.