الدنيا هيك: من التواضع الجميل إلى السذاجة النافرة

05 أكتوبر 2020
استعان المسلسل بفرقة "فور كاتس" (فيسبوك)
+ الخط -

تفرض المقارنة نفسها، فالنسخة الثانية تحثّ على المقارنة بسبب سوء اشتغالها التلفزيوني، ما يُذكِّر بجماليات النسخة الأصلية، وبسبب مشاركة ممثلين في النسخة الثانية، لهم حضور أساسيّ في النسخة الأولى. هذا دافعٌ إضافي إلى المقارنة. إنجاز نسخ جديدة لأصلٍ شعبيّ، سينمائياً وتلفزيونياً، مُتدَاوَل بكثرة، في نتاجات غربيّة عدّة. المقارنات تنشأ من رغبة في تبيان المختلف في الجديد، وفقاً للنصّ الأصليّ. أما نجاح النسخ الأخرى، فيُفترض بها، كبنى فنية وتقنية ودرامية وجمالية وأدائية، أنْ تصنعه، مع احتفاظٍ بجوهر الأصل وبعض مناخه، لا في تقليدهما (الأصل ومناخه). يُفترض بالنسخ اللاحقة على الأصل أنْ تبتكر كلّ جديد ممكن، مع تجديد ضروريّ يتمثّل بأسلوب إخراجيّ، أو بنمطٍ كتابي، أو بطريقة أداء، أو بطرح مواضيع وسرد حكايات وتصوير حالات مختلفة، انطلاقاً من النصّ الأصليّ، أو من عناوينه العامّة.

"الدنيا هيك" مثلٌ على ذلك. مسلسل لبناني مُنجز منتصف سبعينيات القرن الـ20، يُتابعه لبنانيون كثيرون رغم اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، أو ربما بسببها، لتواضعه وتمكّنه من إثارة تسلية، ولمحاولته صُنع ترفيهٍ سليم في زمن العنف والموت والخراب، مُطعِّماً الترفيه بمواقف إنسانية وأخلاقية مفقودة، إلى حدّ كبير، في تلك الفترة. يختار مؤلّفه محمد شامل، بدايةً، "نجم" الكوميديا الشعبية حينها، حسن علاء الدين (شوشو)، الذي يرغب في تبوؤ المشهد برمّته. لذا، ينتقل المشروع مع شامل نفسه إلى فريقٍ آخر، مؤلّف من أبرز ممثلي التلفزيون اللبناني وممثلاته حينها: الياس رزق وفريال كريم وماجد أفيوني وليلى كرم وشفيق حسن ويوسف فخري وآمال عفيش ويوسف شامل وزياد مكوك، كشخصيات أساسية للحلقات كلّها، وهي كثيرة، يتناوب على إخراجها الياس رزق وألبير كيلو وجان فياض وميلاد الهاشم، وآخرون.

مواضيع النسخة الأصلية واقعية وعادية، يُراد من طرحها تسليةً وإضاءة متواضعة على مشكلات تحصل، يومياً، بين أناسٍ يعيشون معاً في حيّز جغرافي صغير وشعبيّ وبسيط. خلافات زوجية، وعلاقات حبّ معطّل، وجشع يُصاب به البعض، وزيارات يقوم بها أناسٌ من خارج الحيّ فيُسبّبون، عن قصدٍ أو من دونه، ارتباكات في الروتين اليومي لأهل الحيّ. الخلافات كلّها تنتهي لمصلحة الجميع، على طريقة أبو ملحم، صانع مسلسل لبناني سابق على "الدنيا هيك" ومُرافق له، بعنوان "أبو ملحم" (1959 ـ 1965)، قبل تغيير عنوانه إلى "يسعد مساكم" (لغاية 1984)، يتصدّره أديب حداد (أبو ملحم) وسلوى فارس الحاج (أم ملحم)، زوجته في الحياة والبرنامج.

وإذْ يميل "أبو ملحم/ يسعد مساكم" إلى الريف، متوغّلاً في أحوال القرية وفضائها العام (أو هكذا يوحي على الأقلّ)، من دون تحليل اجتماعها وعلاقات ناسها وحيوية عيشهم وارتباطاتهم وأنماط تفكيرهم (وإنْ تطهر هذه كلّها مواربة أو بشكلٍ مبطّن للغاية)، مكتفياً بمصائب تحلّ هنا وهناك، فيكون أبو ملحم حلّاً جذرياً لها؛ فإنّ "الدنيا هيك" ينصرف إلى المدينة، رغم تقوقعه في بؤر ضيّقة فيها، ومستخدماً أسماء لبنانية غير فاضحة الانتماء الديني ـ الطائفي لشخصياتها إلى حدّ بعيد، كما في "يسعد مساكم"، الذي يُشبهه في عدم الإسراف في قراءة تفكيكية للبُنى الاجتماعية والاقتصادية والحياتية لهذه البيئة المتواضعة، مع أنّ المظاهر تكشف في العملين انتماء الشخصيات، بغالبيتها، إلى طبقة وسطى (بمعنى ما) تسمح لبعض أفرادها من الوجهاء بتبوّؤ المرتبة الأولى في "التحكّم" بشؤون البيئة وأحوال ناسها. علماً أنّ اللهجات ربما (مع التشديد على مفردة ربما) تشي بانتماء بيروتيّ أعمّ وأجمل.

أهوال الحرب الأهلية تُترجَم في العملين بتلميحات تتّخذ من "النزاعات الأخوية" في البيئة الضيّقة نموذجاً لبنانياً أعمّ، يُراد شطبه من المعادلة اللبنانية الصافية والبريئة والطاهرة، التي تواجه الشرّ بعقلانية وهدوء فتنتصر عليه. هذا مناقضٌ لواقع لبناني، يعاني عنفاً حربياً مدوّياً في الجسد والروح والتفكير والانفعال والعلاقات.

بعد أقلّ من ربع قرن على انتهاء عروض النسخة الأصليّة لـ"الدنيا هيك"، يُقرِّر غسان الرحباني إنجاز نسخة جديدة (أُعيد عرضها مؤخراً على شاشة "المؤسّسة اللبنانية للإرسال 2") من عملٍ ذي شعبية لبنانية كبيرة. يختار يوسف فخري (كوكو) ويوسف شامل (علّوش) وزياد مكوك (خردق) وآمال عفيش (شويكار) لمشاركته المشروع، ويؤدّي هو نفسه دور ماجد أفيوني (بلبل)، وهذه إحدى أبرز مصائب العمل، لفقدانه كلّ ما له علاقة بالتمثيل، بينما عزفه على العود تقليدٌ باهت لماجد أفيوني، واختياره آلات موسيقية أخرى غير موفَّقٍ البتّة في مسلسل كهذا، رغم أنّ هناك ما يشي برغبة (معطّلة) في نقل الحكايات والعلاقات إلى زمنٍ مختلف عن زمن النسخة الأولى. أما حركاته الأدائية فنافرةٌ لتصنّعها، كالغالبية الساحقة من الحركات الأدائية لممثلي النسخة الثانية تحديداً، في الأدوار الرئيسية.

فهو يتعاون مع بيتي توتل (وردة، زوجة بلبل) وليال ضو (زمرّد) وميشال أبو سليمان (عزيز السلمنكي، زوج زمرّد) وعمر ميقاتي (المختار، محمد شامل) وريمون صليبا (الدِرْوندي، شفيق حسن) وغيرهم، ومستعيناً بفرقة "فور كاتس" في إحدى نسخها الأولى. هؤلاء جميعهم يُقدّمون أدوارهم بأداءٍ متصنّع وبحركاتٍ يظنّون أنّها تُثير الضحك، بينما الحاصل يتكشّف عن كلّ نقيضٍ ممكن للضحك والكوميديا، بسبب كثرة التصنّع في تقديم تلك الحركات.

النسخة الثانية من "الدنيا هيك" نافرة بمقاييس فنية كثيرة، أبرزها ندرة التمثيل، وطغيان الغناء الركيك، وتصنّع حضور "النجم" مع أكثر من مُشارك. هذا لا علاقة له بممثلي النسخة الأولى، الحاضرين في النسخة الثانية، الذين يعتمدون الأسلوب نفسه لأداءاتهم السابقة. لهؤلاء طرافة مستمرّة، وإنْ يخفّ بريقها، فالمحيطون بهم يبثّون طاقات سلبيّة في أداء يفقد لمعان كلّ شخصية، وتركيبتها النفسية والروحية والأخلاقية. حتى النكات ساذجة، والقصص المروية مسطّحة، بينما النكهة البصرية المتواضعة للنسخة الأولى مُختفيةٌ في النسخة الثانية، التي يُمكن تفاديها، بدلاً من إنجاز حلقات تبدو كأنها غير منتهية في سلسلة من الادّعاءات.

المساهمون