في ظلّ واقعٍ عربيّ مُتصدّع، يطرح ناقدٌ سينمائيّ سؤالاً مشروعاً وعلمياً عن أسباب غياب مونوغرافياتٍ نقدية، تتعلّق بالحوار السينمائي في العالم العربي. سؤالٌ كهذا مُخيف ومؤلم لصناعة سينمائية تتهجّى مبادئ حداثة بصرية في عالم عربيّ يُريدون له الهَلاك. سؤالٌ نابعٌ من ممارسةٍ يوميّة مُنشغلة بالسينما ومُتخيّلها، إذْ يُلاحظ الناقد كيف غدا الحوار السينمائي على هامش صحفٍ ومجلات، رغم أهميته في تقديم معلومات، والكشف عن حياةٍ شخصية حميمة للمخرج، التي لا تظهر في مَشاهده السينمائية.
الحوار السينمائي نوعٌ صحافي، لم يأخذ حقّه بعد في التداول النقدي اليوميّ. الانتشار السريع والمُتسلّط للصورة يجعل الناس تنصرف إلى حوارات مُصوّرة أو مسموعة أحياناً، وتمتعض من كلّ فعل مُتعلّق بالكتابة. هذه الأخيرة تغدو أشبه بالشبح في عيون الناس، إذْ يعتبرونها مُرهقة، مقارنة بحوارٍ مُصوَّر، يُسهّل عليهم معرفة محتوى العمل الفنّي.
رأيٌ كهذا لا يهُمّ ناقداً سينمائياً مُجتهداً، يُتابع يوميّاً تحوّلات السينما العربيّة ومُتخيّلها، في علاقتها بمؤسسات إنتاجٍ ومهرجانات ومؤلّفات ومجلات. الصورة، بسبب سُلطتها الرمزيّة، تظلّ مُعلّقة في الوجدان والنفوس، وتسعى بشكل ساحر إلى توطيد علاقة خاصّة مع المُشاهد. تجذبه وتُدهشه وتُؤثّر فيه، وتدفعه تلقائياً إلى الإفراط في المُشاهدة. كما أنّ الحضور الفيزيقي للضيف، مُخرجاً أو ممثلاً أو مؤلّفاً، يزيد من حرارة الحوار. لكنّ هذا يعني أنّ سبب الإقبال الجماهيري على الحوار المُصوّر كامنٌ في "الصورة"، وليس أي شيء برّاني آخر. وبغضّ النظر عن الصورة، وتأثيرها في تلقّي المنتوج الفنّي، تبقى الحوارات المكتوبة ذات قيمة تأريخية كبيرة.
لا أتحدّث عن الحوارات الصحافية، العابرة والمُدهشة في موضوعاتها، والمُنطلقة من هواجس تروم الاستكشاف والمساءلة والنقد. أتحدّت عن مونوغرافيات الحوارات السينمائية، المُغيّبة في العالم العربي لأسبابٍ لا معرفية حصراً. ففي العالم العربيّ، هناك نوع واحد من هذه الحوارات، يجمعها النقّاد عادة بعد نشرها في صحفٍ ومجلات. حوارات تظلّ محدودة القيمة، نوعاً ما، لأنّها ترتبط بأشياء عابرة وسطحية لا تُحرّض على المُشاهدة والتفكير والتأمّل. بينما الحوارات المطوّلة، الخاصّة بالكتب، تُظهر شيئاً من مشروع المخرج السينمائي، وأنماط صُوَره، وطريقة كتابته، وأسباب اختياره العمل مع ممثلين وممثلات.
الأجمل في هذه الحوارات، المنتشرة في الثقافة الغربية، تلك المُرتبطة بعلاقة المخرج بحياته اليومية، وطريقة تفكيره، والأشياء التي تدفعه إلى الكتابة والحلم.
هذه الحوارات تقود الناقد، تدريجياً، إلى عالم المخرج، من بابٍ خفيّ ساحر، لا أحد ينتبه إليه. بل إنّ معرفة معلومة صغيرة عن حياةٍ مخرج تدفعه إلى فهم مَشهدٍ سينمائي (أتذكّر هنا شجرة عباس كيارستمي في أفلامه)، وتفكيكه من الداخل. المخرج ليس كائناً فضائياً، بل كائناً حيّاً يُفكّر، وله حياة خاصّة، وعلاقات اجتماعية مؤثّرة في نسقه التخييلي.
كلّ شيء يأتي من ذواتنا، بعد اعتقاد المُبدع، لقرونٍ عدّة، أنّ الإلهام يأتي من الخارج، أيْ من السماء. سنكتشف، مع التحليل النفسي المعاصر، أنّ كلّ شيء موجود في ذواتنا، وما علينا إلّا ترويض الجسد على مخاض الولادة السليمة.
المونوغرافية السينمائية عملية علمية أكثر من كونها صحافية. إنّها كتابة تجهد في الحفر النقدي لإعادة بناء سرديّة جديدة. كتابة لا تهتمّ فقط بالثابت، وتنبذ كلّ شيءٍ مُتحوّل. الثابت عند المخرج أصالته السينمائية، ومفاهيمه الجمالية، وأسلوبه، وهذا ثابت وغير زئبقي، لأنّه لغة دفقة غريزية مُنسابة عبر اللاوعي. إنّه شكل من أشكال بروز الذات في علاقتها بالعالم. تتغيّر أنماط الصُوَر وميكانيزمات الكتابة وأجساد الممثلين، لكنّ الأسلوب لا يتغيّر، مهما اعتقدنا أنّ هناك تطوّراً في تجربة مخرجٍ سينمائي.
هذا الانشغال بمونوغرافية حوار يتطلّب، بالنسبة إلى الناقد، وعياً دقيقاً بالذي تعنيه، وبكيفية الاشتغال على ذلك مع المخرج، خاصة حين يكون الناقد صديقاً للمُخرج، فما لا ينبغي أنْ يكون أنْ تتحوّل الكتابة إلى أداة ترويج رأيّ عن مُخرج وفيلم، أو مسألة سياسية. على الناقد التشبّث بحسّه النقدي، وتأدية دور المُحاور اليقظ، المُتمسّك برأيه تجاه صديقه المخرج. تدفع هذه العملية الناقد إلى أنْ يكون ندّاً للمُخرج، يُدقّق في أسئلته، ويُمحّص إجاباته، ولا يترك أيّ شيء ينفلت عبر لذة الحكي. المهمة صعبة بالنسبة إلى المخرج، الذي يجد نفسه أمام قاضٍ يُحقّق في مساره السينمائي. الناقد يكتسب، بهذه الطريقة، مصداقية أمام المخرج الحقيقي، لأنّه يغدو بالنسبة إليه مرآة يرى فيها أعطابه ومزالقه.
هذا غير موجودٍ في عالم عربيّ، تُحاول فيه مؤسّسات سينمائية إخراج الناقد من لوعة غياب، عن طريق مشاركات في لقاءات وندوات ومهرجانات، وغيرها. بل يعتبر الناقد أشياء كهذه أشبه بـ"نعمة"، ينبغي عدم رفضها. هكذا يجد نفسه أمام واقع آخر تصنعه المهرجانات، وتحاول عبره فرض آراء ومواقف لا علاقة لها بالسينما ومُتخيّلها. كأنّ الدعوات تُسكت الناقد، وتُحوّله إلى كلامٍ مباح يعُجّ بمدحٍ مُعتّق في جرار اللغة.
نادرة وشحيحة الأسماء النقدية المحافظة على وعيها النقديّ، وحصافتها المعرفية تجاه أفلام أصدقاءٍ سينمائيين عرب، مهما انتقدناهم نظلّ نُحبّهم وندعم إنتاجاتهم. والنقد الجيّد لا يكون دائماً إيجابياً، والنقد الهدام، بحُسن نيّة علمية، يُساهم في بناء الفيلم مجدّداً في مخيّلة المخرج، ويجعله يكتشف أعطابه وأهواله تجاه نصّ أو صورة أو أداء. النصّ النقديّ الجيّد ليس الذي يُبشّر بنجاح مُخرجٍ ـ مخرجة، بل له رؤية مغايرة في تقديم العمل السينمائي، والكشف عن زوايا نظرٍ لم تُخامِر المخرج قبلاً. فأجمل النصوص المسرحية تلك التي تغوص في تأويل معرفي، وتحاول مع الصورة خلق طباق معرفي في ذهن القارئ ـ المُشاهد.
الحقيقة أنّ كلّ نصّ نقدي يمنح للصورة السينمائية حياة جديدة في بناء شرعية المعنى لدى المُشاهد، في حين أنّه من مزايا الصداقة السينمائية أنْ يتحوّل الحوار بين ناقدٍ ومُخرج إلى كشفٍ حقيقي، يغوص في الصورة السينمائية ومداراتها. مونوغرافيات الحوار السينمائي ضرورة مُلحّة في مجتمع يتشدّق مخرجوه وممثلوه وكتّابه بالحداثة البصرية. حداثة متصدّعة ومعطوبة، تكتفي بالجاهز، وتُعيد تدويره على أساس أنّه حقيقة. لم يتساءل الفكر العربي بعد في هذه الإشكالات السينمائية، فمفكّرون كثيرون لا يُشاهدون أفلاماً، لأنّهم يعتبرون الفنّ السابع تسلية قبل النوم. هذه الحوارات، التي يُنجزها نقّاد وصحافيون سينمائيون، تُتيح للمفكّر إمكانية التفكير والانطلاق من معلومات ذاتية، إلى اجتراح أفق فكري، تغدو فيه السينما وسيلة لإدانة الواقع، ورصد مرارته وخيباته وأهواله.
إنّ السينما وجودٌ جديد يُضاف إلى الوجود الفيزيقي الذي نعيشه، لأنّها وعيّ دقيق بهول لحظةٍ عربيّة نعيشها بجمود واجترار كثيرين.