"الحرب العالمية الثالثة": فيلمٌ مُبهر وسيناريو مُحْكَم

13 يناير 2023
"الحرب العالمية الثالثة": أداء متقن وأسلوب سرد مُشوّق (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

هذا فيلمٌ يثير مشاعر محيّرة. يُفسح مجالاً لشكٍّ في التأويل، ويحثّ على طرح تساؤلات عدّة.

يُحيّد "الحرب العالمية الثالثة" (2022)، للإيراني هومن سيدي (1980) المُشاهِدَ سياسياً. في سرده أحداثاً مستلّة من الحياة اليومية لعاملٍ بسيط ـ حذرٍ في مواجهته عالماً جديداً، وفي التعامل مع أناسٍ مختلفين عنه، اجتماعياً وثقافياً، في مدينة أخرى ـ يقترح الفيلم معالجة مصائر، يتيه معها عارفون بالبلد، وغير عارفين. لا يتعلّق الأمر، فقط، بالتباس مقصود في النصّ السينمائيّ، وفي سيرورة السرد، التي تبدو، مع هذا، حكايةً بسيطة في مستوياتها الأولى، لكنْ أيضاً في احتواء الفيلم على الشيء ونقيضه، وفي رمزية الشخصيات والأحداث، والدور الذي يحتلّه الكذب في مسيرتها، حيث، كحال أفلامٍ إيرانية كثيرة، يقوم حدثٌ محوريّ بكامله عليه، ليجرّ بدوره أحداثاً أخرى، مبنية بمعظمها على كذبة، أو ـ تخفيفاً ـ على إخفاء حقيقة.

"الحرب العالمية الثالثة" ـ الفائز بجائزة أفضل فيلم في "آفاق" الدورة الـ79 (31 أغسطس/ آب ـ 10 سبتمبر/ أيلول 2022) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" ـ شارك في "آفاق مفتوحة"، في الدورة الـ63 (3 ـ 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022) لـ"مهرجان سالونيك السينمائي الدولي"، فاستقطب مشاهدين كثيرين، امتلأت بهم قاعة "الأولمبيون" بطوابقها. سبب ذلك، ربما يكون إيران، التي تجذب أكثر هذه الأيام بسبب الأحداث فيها. لكنْ، لعلّه أيضاً حُبّ الناس للسينما، وإقبالهم على أنواع عدّة منها، محلية ومن عند "الجيران"، ومن الأبعد.

ينجح فيلم سيدي في شدّ الانتباه منذ بداياته، مع حبكة تسير في خطّ متصاعد، ولغة بصرية يسيطر عليها اللون الأزرق الرمادي البارد، وأسلوب سرد مُشوّق، على الأقل حتى منتصفه (107 دقائق)، ومع الأداء المتقن لممثليه. في مَشاهد أولى، تُقدّم الشخصية الرئيسية شكيب (محسن تنابنده، أفضل ممثل في "مهرجان فينيسيا")، عامل مياوم متشرّد، فَقَد زوجته وابنه في زلزال قبل سنوات عدّة. في عامين سابقين، ارتبط بعلاقة مع لادان، صمّاء بكماء، تعمل عاهرةً رغماً عنها.

يظهر شكيب شخصاً منغلقاً، يسعى يومياً، كغيره من البؤساء، إلى إيجاد عمل يدوي. يقف في الشارع مع عشرات مثله، بانتظار مُشغّلي أصحاب الأيدي العاملة. على بساطة التقديم، تبدأ تعقيدات القصّة، منذ اختياره للعمل في موقع بناء، يتبيّن لاحقاً أنّه مكان تصوير فيلمٍ "سيئ"، عن فظائع ارتكبها هتلر في الحرب العالمية الثانية. إنّه فيلمٌ داخل فيلم، وهذا نوعُ مالت السينما الإيرانية كثيراً إليه، كأنّه وسيلة لتمرير أحداث وأقوال تخففّ عن كاهل الفيلم الأصلي أحماله تجاه الرقابة.

لم يكتفِ هومن سيدي بهذا التعقيد في السرد، بل تابع مساراً توالت فيه مفاجآت، وتداخلت عناصر درامية، زادت من غموض القصّة وملابساتها، فسادت الحيرة إزاء رسالة الفيلم حتّى النهاية، والرسالة سياسية. إذا أحال السؤالُ إلى دور الفنّ السينمائي في توجيه الرسائل، وهذا ينفر البعض منه، فلا مفرّ من طرحه في السينما الإيرانية، التي تحضر السياسة فيها، غالباً، وتحديداً في خلفية القضايا الاجتماعية، والإحالات فيها كثيرة، واضحة أو مغلَّفة، لتشويش الرقيب.

يحصل شكيب على فرصة عمر للخروج من التهميش، بتقديم عرضٍ له: تجسيد شخصية هتلر، بعد إصابة الممثل الرئيسي للدور. شكيب يتمتّع بحضور وشكل مُلائمَين، ولاحقاً تظهر قدرته الهائلة على تحويل تعابيره الجامدة، والتحوّل من إنسان بسيطٍ ومسكين وخاضع (عامل بسيط)، إلى حيوان هائج شرس (هتلر). فهل كان للدور أثر في تحوّله؟ هل الوجود في السلطة، ولو تمثيلاً ومؤقّتاً، شجّعه على تلبّس شخصية الديكتاتور، والتصرّف وفقاً لها؟ هل للسلطة هذا الأثر التدميري على أفرادٍ كانوا بسطاء؟ تساؤلات، يطرحها الفيلمُ مع التطوّر المأساوي لشخصية شكيب. يطرأ تهديدٌ لفرصته في أنْ يصبح شخصاً آخر، ويُغيّر حياته، حين تعلم لادان بتحسّن أحواله، وبأنّ منزلاً مُنح له. تأتي إلى مكان عمله طالبةً المساعدة والإقامة. لا مفرّ من الكذب مجدّداً، بعد أنْ كذب على جهة الإنتاج، مُدّعياً أنّه "مقطوع من شجرة"، والتزم عدم إحضار أحد إلى موقع التصوير. لادان كذبت أيضاً حين ادّعت بضرورة هربها من القوّاد، وهي في الواقع طامعةٌ في رفاهية مؤقّتة. كذبٌ يقود إلى سلسلة أحداث عنيفة، تنتهي بمأساة تُغيّر مصائر الجميع، يُصبح شكيب معها كتلة ألم ويأس وحقد، مُقتنعاً تماماً بمسؤولية فريق التصوير عما حصل لحبيبته.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

بعد فشل ثورته على الفريق، وتصديقه وعودهم، يضطرّ إلى التحايل، ولعب دورين متناقضين. من جهة، يبدو مستسلماً ظاهرياً ومؤقّتاً بالعودة إلى التمثيل، تجنّباً للخسارة. ومن جهة أخرى، يُحضّر بصبرٍ للانتقام، لتحقيق غايته، ودفع الجميع إلى الهاوية، من منطلق "عليّ وعلى أعدائي". ورغم أنّ ما حصل كان مسؤولية مشتركة، له ولرفيقته، فكُلّ دوافعه العدوانية مُوجّهة ضد فريق الفيلم، المتحكّم بسير العمل، والمسؤول عن غير قصد عمّا حصل لها، لجهله أصلاً بوجودها في موقع التصوير. بدا أنّ الجميع مسؤولون عمّا حصل.

الفريق الذي يُمثّل النخبة بدا بعيداً تماماً عن مشاغل الناس البسطاء والفقراء، فهؤلاء يُستغَلّون في العمل، وفي الآن نفسه يؤدّون أدوارَ هامشيّين (كومبارس) في الفيلم. لم يكن يهمّه سوى إكمال التصوير والربح. في هذه المرحلة من الفيلم، كلّ شيءٍ يسير نحو الأسوأ. تدريجياً، يُصبح الفيلم أقسى وأعنف، وأكثر إنهاكاً لمُشاهديه، مع مشاعر الانتقام، وصراع الطبقات، والثورة اليائسة. أفعالٌ تقود إلى خراب الجميع، أظهرها "الحرب العالمية الثالثة" سينمائياً على نحو مُبهر، في سيناريو محبوك تماماً، لا شيء يتمّ فيه صدفة، فلكلّ خطوة ما يُبرّرها. هذا كلّه جسّده ممثّلون مبهرون بأدائهم، وبنقل صورة واقعية وصادقة عن أشخاص حقيقيين يُمكن مصادفتهم، وعن طبقة شعبية بائسة وفقيرة، ومتهوّرة أحياناً، ومتمرّدة أو خاضعة تماماً في نظامٍ يتلاعب بها، ومستعد، من أجل مصالحه الخاصة، على تدمير إنسانيّتها وكرامتها (مشاهد تصوير الرشّ بالمياه الباردة لأجساد ضعيفة منهكة، وجمعها عارية كالبهائم في حظيرة).

شخصية شكيب، المُعقّدة ومُتعدّدة الأوجه، من أفضل ما تمكّن هومن سيدي من رسمه، مع دقّة في التعبير عن المشاعر وتحوّلاتها. قسوة مرسومة على وجهه، وتحوّل عميق أصابه، بعد أنْ كان صامتاً وحنوناً ومُحبّاً على نحو مُثير للتعاطف، بات وجهه كالحجر إزاء ما يجري أمامه، ولا يستطيع فهماً له. إنّه مثال الإنسان الخاضع للأقوياء الأشرار، ولرغبة حبيبته في التعرّف على عوالم جديدة، وأماكن مُرفّهة. خاضعٌ أيضاً لفريق التصوير، الذي ـ رغم هذا ـ كان كريماً معه (ولو من أجل مصالحه. لكنْ، لا يُمكن إنكار ذلك). أتقن سيدي التعامل مع هذه المواقف المركّبة، والشخصيات البسيطة، ومع الغضب المُتصاعِد تدريجياً في نفوسٍ خنقها الاستبداد والظلم.

فيلمُ مأساةٍ وانهيارات مقبلة لا بُدّ، كما تنبّأ. لكنّه لم يخلُ من سخريةٍ وفكاهة سوداء، عَكس بعضها انفصالاً بين جيل قديم شارك في الحروب، وعانى ولا يزال يُعاني، وجيل آخر جديد، مُدلّل (؟) وبورجوازي، لا وعياً كافياً له بمعاناة القدماء، وغير قادرٍ حتّى على تجسيد حربٍ على شاشة. قال عجوزٌ بائس، يؤدّي دور كومبارس، ساخراً من تصوير الفيلم المُسيء لمَشاهد حربية وسلوك مقاتلين: "ماذا يعرف هؤلاء عن الحرب؟".

يبقى "الحرب العالمية الثالثة" فيلماً غريباً، ينتهي فيه الجميع (تقريباً) شرّ نهاية، الحاكم (فريق التصوير) والمحكوم (شكيب ولادان). لكنْ، لا يُمكن التعاطف مع أيّ جهة أو شخص. ربما فقط مع البؤساء، لكنْ قبل أنْ يقوموا بالثورة.

المساهمون