التظاهر بالفقر... الاستيلاء على سردية الطبقة العاملة والوسطى

02 سبتمبر 2022
يحاول جيف بيزوس الترويج لبساطة حياته (جو ريدل/Getty)
+ الخط -

نشر جيف بيزوس، قبل أيام، صورة له على "تويتر" وهو يتناول برغر في مطعم ماكدونالدز، مؤكدًا أن مذاقه الشهي لم يتغير حتى اليوم. ويشير ثاني أغنى رجل في العالم، عبر الصورة نفسها، إلى أن ماكدونالدز كان مكان عمله الأول. 

تعيدنا صورة بيزوس إلى إبريل/ نيسان من هذا العام، وتحديدًا إلى تصريح المدير التنفيذي لشركة تسلا، إيلون ماسك، عبر إحدى مقابلات "تيد توك"، أنه لا يمتلك منزلًا، بل يقضي معظم أوقاته متنقلًا بين غرف وبيوت الأصدقاء للمكوث عندهم خلال فترات عمله. كذلك أنكر ماسك امتلاكه لأي يخت، مؤكدًا أنه لا ينفق أمواله على المقتنيات الشخصية، وإنما على حاجيات تساهم في إنماء أعماله فقط.
استدعت مقابلة ماسك المثيرة للجدل وقوف العديد من مؤيدي رائد الأعمال الشهير إلى جانبه على تويتر، زاعمين أن ماسك ليس بالثراء الذي يخاله الجميع، حتى إنه بالكاد يمتلك أي أصول سائلة، وجزء كبير منها يُدفع على شكل ضرائب للدولة.

يصعب تصديق عجز الملياردير الأميركي، الذي تقدر ثروته الصافية بقرابة الـ 300 مليار دولار أميركي، عن شراء منزل يؤويه خلال الأيام الصعبة، خاصة أنه سرعان ما ألحق تلك التصريحات بعرض شراء لموقع تويتر مقابل 43 مليار دولار أميركي نقدًا. ومن المرجح أيضًا أن بيزوس يمتلك طاقمًا ضخمًا من الطهاة لإعداد وجبات صحية خاصة بالملياردير الأميركي. فما الذي دفع أغنى رجلين في العالم إلى الترويج لتلك الصور المتواضعة؟

تأتي كل من صورة بيزوس وتصريحات ماسك جزءًا من ظاهرة أوسع تُعرف بـ Cosplaying As Poor؛ أي التنكر بالفقر، أو التظاهر بالفقر. وفيها، يتظاهر الأغنياء، وخاصة المشاهير منهم، بخوضهم مصاعب مادية واقتصادية تكدر عيشهم، وذلك عبر تصريحات أو أعمال فنية، أو حتى نمط معين من الأزياء. انتشرت تلك الظاهرة بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، وخاصة تيك توك وإنستغرام، ونالت انتقادًا شديدًا في الآونة الأخيرة، حتى إنها تسببت في وضع العديد من الفنانين المتظاهرين بالفقر على قوائم سوداء.

الأمثلة على ذلك خلال السنوات الماضية عديدة، أشهرها تغريدات عارضة الأزياء كريسي تيغان المتعددة حول نضالات جمع الثروة، وفيديو Imagine الشهير الذي ظهرت فيه الممثلة غال غادوت كمبادرة جماعية خلال السنة الأولى من الجائحة، تؤكد فيها أن الفنانين، مثل البقية، يعيشون أعباء الجائحة من داخل قصورهم ومنازلهم الفارهة. فيديو تلقاه العديدون على مواقع التواصل الاجتماعي كإهانة مباشرة للفقراء، وتقزيم لصراعاتهم اليومية خلال الجائحة وخارجها.

كذلك، تندرج الصورة التي نشرتها كيم كارداشيان مع زوجها السابق كانييه ويست، عام 2019، تحت ذات العنوان، وفيها يستمتع الزوجان بوجبة إفطار داخل مطبخ متواضع، وهما يرتديان ملابس رياضية غير ملفتة.

أما المثال الأوضح على تزوير الفقر، فهو حذاء باريس سنيكر بسعر ألف دولار أميركي، الذي صممته شركة بالنسياغا الشهيرة على شكل قماش ممزّق وأطراف مهترئة، توحي وكأنه انتُعل من قبل، احتفاءً بفكرة الثياب المستعملة، إضافة إلى إنتاجات شركة الجينزات العالمية Prps، في محاولة لتمجيد "الطبقة العاملة" وذوي الياقات الزرقاء، عبر مجموعة كاملة من الملابس المتسخة، بدءًا من الجينز المغطى بالطلاء، إلى الفانيلا والسترة الممزقة. في السياق نفسه، تتلقى شركة Nordstrom ما يقارب 425 دولار مقابل جينز موحل يباع عبر سلسلة متاجرها. 

توظف بعض الأعمال الفنية في سياق التظاهر بالفقر أيضًا، إذ يوضح العديد من الناقدين الفنيين أن موسيقى الكانتري باتت تستخدم وسيلة لجمع الأموال عبر إنكارها من الأساس. يغرد الكاتب والمدون توماس مور عبر حسابه على "تويتر"، شارحًا أن موسيقى الكانتري باتت اليوم لأناس أغنياء يتظاهرون بالفقر، على النقيض من موسيقى الهيب هوب التي يقودها أناس فقراء يتظاهرون بالغنى.

أما أكثر الانتقادات، فطاولت الفنانين الذين حاولوا تسييس قضية الفقر، والإدلاء بآرائهم حولها، على الرغم من انتمائهم لخلفيات ثرية، مثل دعوة الفنانة بريتني سبيرز الشهيرة للإضراب، وإعادة توزيع الثروة في الولايات المتحدة، عبر حسابها على "إنستغرام"، مكسبة إياها لقب "كوميراد بريتني".

من المؤكد أن ارتداء زي الطبقة العاملة، وتبني سرديات الفقر، يفيدان في إيصال رسالة ما إلى الجماهير، أهمها الالتزام بمصالح العامة والاقتراب من حياتهم اليومية والتماهي مع همومهم وصراعاتهم، وغيرها من العوامل التي تشكل جزءًا كبيرًا من شعبية الفنان وحضوره الجماهيري. يسعى الأثرياء إلى أن يعايشوا تجربة "الشخص العادي"، المنتمي إلى الطبقة الوسطى بوسائل عدة. لكن الأمثلة على انخراطهم الفعلي في الحياة العادية تكاد تكون نادرة، وهي في غالبها مصطنعة وسطحية، تتلخص في الدعوة إلى المبادرات الخيرية والمجتمعية، أو ربما ركوب المواصلات العامة من حين إلى آخر، وتناول وجبة خفيفة في أحد المطاعم الشعبية. 

يفيض الإنترنت بصور لأشخاص فاحشي الثراء، باغتتهم اللقطة بأزياء بسيطة وأماكن متواضعة، وسط سخرية بعض رواد وسائل التواصل الاجتماعي من كون تلك المنازل البسيطة مستأجرة، أو ربما مستلبة عنوة من أفراد الطبقة الوسطى. لكن الغاية من تلك الصور تكمن في إضفاء الشرعية على ممتلكات الأثرياء وثرواتهم الهائلة عبر التظاهر بالفقر.

مَن وُلدوا وفق وضع اجتماعي واقتصادي مرفه هم أكثر عرضة للتعبير المستمر عن استحقاقهم للنجاح والثروة

في هذا السياق، توضح دراسة أجراها عدد من الباحثين في جامعة ستانفورد عام 2020، تحت عنوان "سيكولوجية الامتياز الحصين" أن الأشخاص الذين وُلدوا وفق وضع اجتماعي واقتصادي مرفه، هم أكثر عرضة للتعبير المستمر عن استحقاقهم للنجاح والثروة. تفسر تلك النتائج تقديم بعض المشاهير والمؤثرين والورثة لأنفسهم على أنهم مناضلون يكافحون لجمع ثرواتهم، في حين تطمس الامتيازات العديدة التي كانت حاضرة أمامهم قبل دخولهم عالم الشهرة والتأثير، زاعمين أن الثروة والمكانة الاجتماعية التي يتمتع بها المرء، تقوم على أساس العمل الجاد فحسب. 

يخبرنا الباحث والمدرس في جامعة ييل، مايكل كراوس، المتخصص في مواضيع المساواة، أنه عندما يجبر الثري على مواجهة التحديات والعقبات التي نواجهها جميعًا، يعتقد الناس أنه يستحق الثروة التي حصل عليها فعلًا، لأنه يعمل بجد مثل الجميع. يمكن فهم تلك المعادلة البسيطة عبر ملاحظة تصريحات ومقابلات نجمة تلفزيون الواقع، كيلي جينر، التي كرست وسائل الإعلام صورتها كمليارديرية "عصامية"، وكذلك الأمر بالنسبة لكيم كارداشيان التي وزعت هذا العام العديد من النصائح المهنية "النسوية" لمكافحة الفقر بالوسائل الصحيحة، تدعو فيها النساء إلى التخلص من كسلهن وبدء العمل اقتداءً بتجربتها الشخصية.  

المشكلة في استخدام جماليات الطبقة العاملة والوسطى وسردياتها من قبل المتطفلين عليها، تتجاوز تحويل الفقر والفقراء إلى موضوع للترفيه والتزين وتلميع صورة من هم باتوا سببًا في المشكلة، وتصل إلى تقديم وجهة نظر مشوهة تمامًا عن الأفراد الذين يعيشون في فقر بالفعل، حارمة إياهم من حقهم في الانتماء إلى طبقة اجتماعية اقتصادية واضحة، تدافع عن نفسها ضد الهرم الاجتماعي المفروض عليها. اليوم، يبدو الأغنياء فقراء، ويحاول الفقراء التمثل بالأغنياء عبر مواقع التواصل الاجتماعي. أما الحقيقة الكامنة خلف هاتين الصورتين المزيفتين، فتغدو ضبابية أكثر من أي وقت مضى.

المساهمون