التطور البشري: الثقافة تتفوق على الجينات

04 يوليو 2021
الناس يتأثر بعضهم ببعض ثقافياً (Getty)
+ الخط -

منذ بدء الخليقة، تكيف البشر مع الطبيعة وتعلموا وتزاوجوا، ونقلوا جزءاً مما اكتسبوه من معرفةٍ وخصائص بيولوجية عبر جيناتهم إلى الأجيال التي تليهم، حتى أصبحت البشرية كما نعرفها اليوم. لكنَّ التطور البشري لم يعد حكراً على الجينات، فقد أظهرت دراسة جديدة، أجراها علماء من جامعة "ماين" في المملكة المتحدة، أنّ الثقافة تلعب دوراً هاماً في التطور البشري، أكبر من ذلك الذي تلعبه الجينات.

ولم يعد التطور يتطلب طفراتٍ جينية تمنح ميزة البقاء للبشر، إذ إنّ المعرفة والسلوكيات المكتسبة التي تنتقل "ثقافياً" بين الأفراد، تحلّ محل الطفرات الجينية التي توفر ميزة البقاء وتساهم في تطور البشرية. ويرى العلماء أنّ هذا التطور الثقافي قد يشكل مصير البشرية أكثر من أيّ شيء آخر.

تصبح أجسامنا بمرور الوقت محصنةٌ ضد التهديدات التي تعرضت لها سابقاً، ويعود الفضل في ذلك إلى التطور البيولوجي المكتسب جينياً، إلاّ أنّ ذلك يحدث ببطء، فيموت الأكثر عرضةً للإصابة، ولا تنتقل سوى جينات الذين ينجون.

تصبح أجسامنا بمرور الوقت محصنةٌ ضد التهديدات التي تعرضت لها سابقاً، ويعود الفضل في ذلك إلى التطور البيولوجي المكتسب جينياً

لكن في وقتنا الحاضر، لم يعد البشر بحاجةٍ إلى التكيف مع هذه التهديدات وراثياً كما كان غالباً في ما سبق، فنحن نتكيف من خلال تدخلاتنا، مثل تطوير اللقاحات والأساليب العلاجية المختلفة لمواجهة أي تهديدٍ لصحتنا، أو أيّ إجراءٍ آخر نقوم به لنتكيف مع التغيرات البيئية من حولنا، وذلك لا يحدث نتيجة عمل فردٍ واحد فقط، وإنّما هذا النوع من التكيف مع التهديدات والتغييرات يحدث كنتاج عملٍ لكثير من الأشخاص اعتماداً على المعرفة الثقافية المتراكمة لديهم، فمن خلال تطوير اللقاحات مثلًا، تعمل البشرية على تحسين "نظام المناعة الجماعية" كما هي الحال مع حملاتِ التطعيم العالمية ضد فيروس كورونا، فقد أظهرت عدة دراساتٍ أنّ المناعة المكتسبة من اللقاحات ستدوم لسنوات.

وفي بعض الأحيان، يمكن أن يؤدي التطور الثقافي إلى التطور الجيني، وخير مثالٍ على ذلك خاصية "تحمل اللاكتوز" عند بعض الأعراق، فقد بدأ شرب حليب البقر كعادةٍ ثقافية عند العديد من الشعوب، أدت بعد ذلك إلى التطور الجيني لمجموعةٍ واسعة منهم، وهنا قد سبق التغيير الثقافي التغيير الجيني، وليس العكس.

لايف ستايل
التحديثات الحية

أشار ريتشارد دوكنز (بريطاني، عالم أحياء تطورية، مواليد 1941) إلى مفهوم التطور الثقافي في كتابه "الجينة الأنانية"، على أنّه أحد النماذج التطورية لانتقال المعلومات بين الناس، كما أعطى للمعرفة الثقافية وحدة قياسٍ سماها "الميمي"، وهي تعبر عن مقدارِ المعرفة أو مقدار الثقافة التي تنتقل من فردٍ لآخر. إلاّ أنّ دوكينز لم يقدم نظريةً جديدة، إذ إنّ مفهوم التطور الثقافي ليس وليد اليوم، بل بدأ مع تشارلز داروين (إنكليزي، مؤسس نظرية التطور: 1809 - 1882) فقد أدرك الأخير أنّ السلوكيات يمكن أن تتطور وتنتقل إلى الأبناء تمامًا مثل الجينات. كما اعتقد العلماء في عصره أن التغيرات السلوكية موروثة، فإذا كانت الأم ستعلم أبناءها صفة ما، فإن هذه الصفة تكون قد انتقلت إليهم، ما يجعلها أكثر شيوعًا مما سبق. وبحسب معدي الدراسة، فقد بدأت الثقافة في انتزاعِ "السيطرة التطورية" من الجينات منذ زمنٍ طويل، وفي وقتنا الحاضر، يتيح لنا التطور الثقافي أن نتطور بطرقٍ لا تستطيع الجينات أو التطور البيولوجي مواكبتها وحدها.

انتشار الأفكار بين الناس يطور سمات جديدة في ثقافتهم ومجتمعاتهم، وعلى نقيض ذلك، يرث الشخص كمّاً محدوداً من المعلومات جينياً ومن والديه فقط

السبب في ذلك هو أنّ الثقافة تنشأ داخل المجتمعات، فهناك يتحدث الناس بعضهم إلى بعض، ويتعلمون من بعضهم، بل يقلدون بعضهم أيضاً. يعمل هذا النمط التفاعلي بين الأفراد على تمرير المعرفة والسلوكيات المكتسبة بوتيرةٍ أسرع من قدرة الجينات على نقل نفس هذه المنافع، وفي زمنٍ أصبح العالم يعيش كلّ هذا التقدم التكنولوجي، والذي حدث في فترةٍ زمنية قصيرة - مقارنة بعمر البشرية -  صار من الممكن لأيّ شخصٍ في العالم أن يعرف كماً لا محدوداً من المعلومات من عدد كبيرٍ من الناس وفي فترة زمنيةٍ قصيرة، وبالتالي، وباعتباره فرداً في مجتمعه، فإنّه سيقوم بنقل هذه المعرفة إلى العديد من الأشخاص. وكلما زاد عدد أفراد المجتمع الذين يتعلم منهم الفرد ويعلمهم، كان ذلك أفضل، إذ تقوم المجموعات الكبيرة بحلّ المشكلات بشكلٍ أسرع من المجموعات الصغيرة، والمنافسة بين هذه المجموعات تجعلها تتكيف مع ظروف الحياة بشكلٍ أسرع، فمع انتشار الأفكار بين الناس تتطور سماتٌ جديدة في ثقافتهم ومجتمعاتهم، وعلى نقيض ذلك، يرث الشخص كمّاً محدوداً من المعلومات جينياً ومن والديه فقط، ويستغرق الأمر أعواماً طويلة ليورثها لأبنائه، ممَّا يعني تفوق الثقافة على الجينات بمساهمتها في التطور البشري.

وبحسب القائمين عن الدراسة، فإنّ من الممكن أن يمثل التطور الثقافي "نموذجاً تطورياً رئيسياً للبشرية"، وهم يرون أنّ الثقافة هي الحالة الانتقالية التطورية التالية، فعلى مر العصور، كانت لحالاتِ التطور تأثيرات هائلة على وتيرة الحياة وشكلها، مثل تطور البشر، أو تطور الخلايا، أو النباتات البحرية وغيرها، وقد يكون البشر الآن يعيشون حالة تطورية جديدة ستغير من شكل الحياة على الأرض مرةً أخرى، وعلى الرغم من أنّنا ما زلنا نتطور وراثياً عبر الجينات، لم يعد التطور الجيني يتحكم في بقاء الإنسان كثيراً بعد الآن.

المساهمون