هل يُمكن أنْ نُشاهد، قريباً، أفلاماً تُقدّم شخصية أو شخصيات مسلمة، بطريقة طبيعية؟ كبشر عاديين، لا كمتطرّفين إسلاميين، غالباً، أو كمرتكبي جرائم شرف، أو ضحايا سوء تربية، أو عدم تأقلم، أو هجرة، شرعية أو غير شرعية؟ أي أنْ تكون شخصيات إنسانية بحتة، من لحم ودم، بسلبياتها وإيجابياتها، من دون إسقاطات سياسية أو دينية أو تعصبية، أو غيرها من الأنماط المعهودة المُكرّرة بفجاجةٍ في أفلامٍ كثيرة؟ إذْ لم يعد يمرّ عامٌ من دون أفلامٍ كهذه، تُكرّر غالباً النهج والأخطاء والمعالجات نفسها.
في دورات العام الماضي (2021) لـ3 مهرجانات كبرى، برلين ولوكارنو وفينيسيا، عُرِضت 3 أفلامٍ، أبطالها مسلمون مُتطرّفون، تباينت معالجاتها، وزوايا مقارباتها الشخصيات؛ كما تفاوتت مصداقية كلّ فيلمٍ عن الفيلمين الآخرين، بدرجة كبيرة.
واقعية ورومانسية
حكاية الروائي الثالث للألمانية آن زهرة برّيتشد، "امرأة الطيار" مستوحاة من الواقع. سعيد اللبناني (روجيه عازار) وأسلي التركية (كِنان كير)، طالبا طبّ التقيا في هامبورغ، وأُغرِم أحدهما بالآخر، في منتصف تسعينيات القرن الـ20. حافظ الفيلم على هذه الخيوط الواقعية البسيطة، ونسج منها قدر المستطاع عالمه الرومانسي الخيالي. لكنّ الواضح أنّ سعيد هو زياد جرّاح، خاطف طائرة United 93، التي تحطّمت عمداً في حقل بنسلفانيا، في 11 سبتمبر/أيلول 2001. إذاً، أسلي هي المقابل لصديقته، أيسل شينغون.
يتتبع "امرأة الطيار" مسار علاقتهما في 5 أعوام. بداية، يخفيان علاقتهما عن والدة أسلي، التركية المتحفّظة، والعنصرية قليلاً، التي لا تتصوّر أنْ يكون لابنتها الحبيبة علاقة بعربيّ. لذا، يتزوّجان في مسجده، ولا يخبرانها. يذهب سعيد إلى المسجد كحالةٍ اجتماعية فقط، فهو غير مُتديّن، رغم أنّ هذا يتغيّر تدريجياً. يمرّ وقتٌ، قبل أنْ يبدأ باتّهام أصدقائه بالربا، عندما يتحدّثون عن اقتراض المال من أحد المصارف، أو إزاء بيع الكحول في المطعم. هذه إشارات طبيعية عند المسلم المتديّن، لكنّها تُصوَّر دائماً في الأفلام كدلالات على تطرّف، أو كجنوح إلى إرهاب.
يختفي سعيد في اليمن. يُفترض به أن يلتقي أسلي في بيروت، لزيارة عائلته، لكنّه لا يأتي. تجهل عائلته الثرية مكانه. بعد مرور عامٍ تقريباً، وعودة أسلي إلى ألمانيا، يظهر فجأة أمام باب منزلها، في حالة يُرثى لها، ويطلب منها الصفح. ثم يتحدّث معها، جدّياً، عن رغبته في إنجاب الأطفال. في العام الخامس، يذهب إلى ميامي (فلوريدا) لتعلّم الطيران. تزوره هناك. بحصوله على إجازة الطيران، يُحقّق حلم حياته. يطير بها فوق ميامي، ويسمح لها بالقيادة، قليلاً. يتحدّث عن عيشهما معاً "إلى الأبد". تخضع أسلي لعملية جراحية روتينية، وتستيقظ لتجد المستشفى مهجوراً، فالجميع في صالة التلفزيون يُشاهدون اعتداءات "11 سبتمبر".
بشكل حاسم، لا يرى الجمهور تطرّف سعيد وتحوّله الراديكالي، فهذا يُستدَلّ عليه، نسبياً، بتفاعل الزوجين، أحدهما مع الآخر، وبعلاقة سعيد مع صديق له. تلمس أسلي تطرّفه البطيء، وتُلاحظ تغييرات طارئة على شخصيته، كذهابه إلى اليمن، وكلامه عن الحرب. لكنّها لم تتوقّف عند هذا كثيراً، فلعلّها لم ترغب في معرفة الحقيقة، أو أنّها كمسلمة، لم تشكّ بالتديّن الزائد لزوجها.
سيناريو ستيفاني مزراحي وآن زهرة برّيتشد لا يُدخل السياسة والدين، كثيراً، في السرد، باستثناء مواقف تبدو مُقحَمة ومُقوْلَبة. الفيلم أساساً قصة رومانسية مأسوية، في فترة سابقة على "11 سبتمبر". هناك تركيز أكبر على العلاقة ومسارها وتطوّراتها، التي بدت قوية بفضل الكيمياء والديناميكيات الأدائية بين الممثلين، اللذين قدّما أداءً سلساً وطبيعياً لشخصيّتيهما متعدّدتي الوجوه؛ وبفضل كاميرا المُصوّر كريستوفر عون، التي التقطت المشاهد بشكلٍ فنّي مميّز، ما جعل الفيلم دراسة مُقنعة، بعض الشيء، في استكشاف مواضيع الحب والخسارة وفهم الآخر.
"امرأة الطيار" قصة رومانسية تتعمّق في عواطف أسلي، التي لم تَلُم أحداً، ولم تُحمِّل أحداً أي مسؤولية. الشابّة الحقيقية، بحسب التحقيقات، لم تكن تعرف مسبقاً ما كان عليه زياد جرّاح. كانا صديقين، ولم يتزوّجا، وزياد أكثر علمانية من منفّذي اعتداءات "11 سبتمبر"، وهذا يعكسه الفيلم. لذا، تروي القصة أساساً كيف يمكن أن يكون الحب مُغرياً، حرفياً ومجازياً، وأيضاً "غسل أدمغة". فالحبّ يُقبَل بسهولة، من دون تفكير. ورغم أنّ أسلي ليست غبية، بل ذكية وعنيدة وقادرة ومتحدّية، تغرق في الحب.
هناك مشكلة أكبر، تتجاوز تناول شخصية الإرهابي تحديداً: الفيلم ضدّ الرومانسية، أو السماح بالضياع في فانتازيا الحب. إنّه صفعة قوية وقاسية ومأسوية ضد علاقة النساء بالرجال، بإبرازه أنّها محفوفة بمخاطر جمّة، وانعدام ثقة، وأنّها تفضي أحياناً إلى دمار كامل. الفيلم يُظهر أيضاً أنّه يُمكن لحبيبٍ أنْ يكون إرهابياً أو مُتطرّفاً، وهذا يضع العلاقة على المحكّ، باستمرار.
تصحيح سيرة
"أنتِ تُشبهينني"، للصحافية المصرية دنيا عامر، يتناول قصة حسناء آيت بولحسن، المذكورة زوراً في وسائل الإعلام الغربية بأنّها "أول انتحارية في أوروبا"، بعد الهجمات الإرهابية في باريس، في 13 و14 نوفمبر/تشرين الثاني 2015. كصحافية، تابعت عامر الهجمات، وكانت حاضرة حيث قُتل العقل المدبّر لها، عبد الحميد أباعود، مع آيت بولحسن، في انفجارٍ أثناء مداهمة الشرطة. حينها، أفادت عامر، وكثيرون غيرها، وصحف "تابلويد" أوروبية أيضاً، أنّ آيت بولحسن "أول مفجّرة انتحارية"، فنُشِرت سريعاً تفاصيل خاطئة من حياتها، كالقول إنها محبّة للمخدرات، وداعرة، ومعروفة في أنحاء المدينة باسم "راعية البقر". بعد أيام، ظهر تسجيل صوتي لها، تتوسّل فيه المغادرة قبل لحظات من الانفجار الذي أدّى إلى وفاتها، ما أثار شكوكاً حول دورها ومسؤوليتها.
بدعم من سبايك لي وسبايك جونز، كمنتجَين تنفيذيين، بدأت عامر تتعرّف على آيت بولحسن، منذ طفولتها المُعدمة حتّى وفاتها عن 26 عاماً. أجرت 300 ساعة لقاءات وحوارات مع أفراد عائلتها وأصدقائها، ثم صنعت منها "أنتِ تشبهينني"، محاولةً تصوير الأثر المدمِّر لكيف تؤدّي الصدمة الشخصية والاغتراب الاجتماعي إلى مأساة كبرى. ينظر الفيلم إلى ما وراء العناوين المثيرة، للعثور على الإنسانة في آيت بولحسن. في نهايته، تظهر شقيقتها الصغرى، مريم، وهي تضع زهوراً على "نصب باتاكلان التذكاري"، وتتأمّل في اختيارها عمداً إخراج حسناء من حياتها، قبل وفاتها، مع وصف الإحساس المضطرب لشقيقتها إزاء الانتماء في فرنسا، وتأكيدها على أنّ "حسناء أحبّها الجميع"، من دون إظهار هذا الحب أبداً في الفيلم، حتّى من جانبها.
تعود القصة إلى الطفولة المضطربة لحسناء، في إحدى ضواحي باريس. تُظهر عامر الطفلتين ـ اللتين وجدتا عزاءً في صحبة إحداهما للأخرى ـ في مواقف مضطربة ويائسة. حسناء (لورينزا غريماودو) ومريم (إلونّا غريماودو) تحاولان مواجهة المتطلّبات والنزوات المُعقّدة لأمٍ مضطربة، تكافح من أجل التأقلم. عقب شجار عنيف، تقرّر الفتاتان الهرب. بعد شعور قصير بالحرية، يتّضح لهما أنْ لا مهرب من المخاطر المترصّدة. تلاحقهما الشرطة، وتأخذهما بعيداً عن والدتهما، المُدرج اسمها في قائمة المراقبة، بسبب سوء الأمومة. تحاول حسناء حماية مريم، لكنّ جهودها تؤدّي إلى تفكّك الأسرة، إذْ تأخذ "الخدمات الاجتماعية" الطفلتين، اللتين تُفصل إحداهما عن الأخرى، وترسلان إلى داري رعاية مختلفتين، ثم إلى منزلين منفصلين. شعور بالذنب لن تنساه حسناء أبداً. لاحقاً، تصطدم بمحاولة أسرتها الحاضنة جعلها فرنسية: إطلاق شعرها، وتناول لحم الخنزير، وتعلّم آداب السلوك. ينتهي بها هذا كلّه في الشوارع، مرة أخرى، متعرّضة إلى إساءات أقسى.
يقفز فيلم دنيا عامر قفزة حادة إلى عام 2015. حسناء البالغة (صابرينا وزاني) تحاول في حياتها، كشبابٍ عديدين، إشباع نفسها وجسدها بالحرية والجنس، والاحتفال وعيش الحياة، لكنها لا تزال تُستَغلّ. لا تردّ مريم على اتصالاتها الهاتفية، ولا تستجيب لها. لن تظهر على الشاشة مُجدّداً. تشعر حسناء بالضياع والعزلة، وانتفاء أي شعور حقيقي بالانتماء. تجهد في كسب عيشها بطريقة لائقة، بعد تمضية أوائل عشرينياتها في الدعارة والوظائف الوضيعة، فحُرمت من التعليم العالي، ورفضت مؤسّسات كثيرة توظيفها. حاولت الانضمام إلى الجيش، موضحةً أنّها تريد حماية الناس، ومستشهدةً بدفاعها عن مريم ضد والدتهما.
بعد هجمات "شارلي إيبدو" (7 يناير/كانون الثاني 2015)، تنفر من الردّ الفرنسي، معتبرةً إياه زائفاً. ردّ فعلها تنفيسٌ عن إحباطها وشعورها بالغربة. في لحظةٍ ما، تبدأ متابعة رابطٍ داعشي، نشره ابن عمها عبد الحميد أباعود (ألكسندر غونان)، الذي يُجنِّد الناس حينها للقتال في سورية، لإشباع روحي له. بدأت تدردش معه عبر الإنترنت، فشعرت أنّها مفهومةٌ للمرّة الأولى. اعتقدت أنّ هذا الاتصال شريان حياة، لكنّه سيؤدّي قريباً إلى وفاتها. تترك وراءها قبعة رعاة بقر، وحياتها القديمة، وتنطلق بالخمار لتتزوّجه، ليس غضباً أو تمرّداً أو اقتناعاً أو تديّناً، بل بحثاً عن حياة طبيعية، وفرصة إنشاء عائلة والحصول على منزل.
في "أنتِ تُشبهينني"، تظهر مسألة الهوية مراراً. الأسرة المختلّة والغربة وسوء المعاملة والدعارة، كما الافتقار إلى مساحات آمنة، كجزء من مأساة حسناء. شخَّصَ ابن عمها الأمر بشكل صحيح: "تشعر بالفصام في فرنسا. لا تنتمي إلى العالم العربي أو الغربي". غياب مريم في حياتها مؤلمٌ عاطفياً ومزعجٌ عقلياً. شعرت بجزء مفقود فيها. تضخّم عامر هذا الانقسام، باختيار 3 ممثلات، تكون هي إحداهنّ، لتأدية دورها.
"أنتِ تشبهينني" ميلودراما ساذجة بعض الشيء. جهدت عامر في تحقيق واقعيّة صادقة عن عربٍ مُهمّشين وبيضٍ غير مُتعاطفين، مُفترضة أنّ مصير حسناء آيت بولحسن يُمكن أن يكون مصير أيّ مهاجر عربي مسلم، يعيش الصعاب نفسها. هذا تبسيطٌ مفرط وساذج، يستبعد عوامل شخصية واجتماعية واقتصادية عدّة، ويمحو الإرادة البشرية.
فيلم مليء بخلل كثير، وفيه لقطات ومواقف مُفتعلة، ويُقدّم الشخصية ضحيةَ اضطهاد الفرنسيين البيض، الذين يُجرّدون النساء العربيات من أي خيارات. وأيضاً، تقديم الرواية نفسها التي تروّج لها وسائل الإعلام الغربية عن الأصوليين العرب الأوروبيين: تطرّفهم نتاجٌ حتميّ لحرمانهم من حقوقهم. بينما حسناء بقيت بلا لوم وتقويم في الفيلم، لا تخضع أفعالها وخياراتها للتدقيق مطلقاً. لا تتحدّى عامر وجهة النظر الشائعة، ولا تقدّم رؤية جديدة أو مُعاكسة للموضوع.
الوثائقي أصدق
الوثائقي "إخوة"، للإيطالي فرانتشيسكو مونتَنْيار (1989)، أصدق وأقوى وأكثر اقتراباً من جوهر الموضوع، بتعامله الأمين والمُحايد مع الشخصيات والطرح. 3 أشقاء بوسنيين عالقون بين مسؤوليات عائلية تُثقل عليهم، وحاجة متأصّلة إلى الحرية. يستكشف الفيلم معضلة حقيقية: الاضطرار إلى الاختيار بين الانتماء الطبيعي إلى معتقدات الأهل والعشيرة، والرغبة في اكتشاف الذات، حتى لو حصلت أخطاء. إنّه سبرٌ حميم وصادق للنظام الأبوي والذكورة والهوية. إيديولوجياً، لا يتّهم مونتَنْيار أحداً، ومع ذلك، يُبيّن الفيلم دور التربية الأسرية في التوازن العاطفي والنفسي.
بحساسية نادرة ودقّة تحليلية، وعبر تسجيل امتدّ 4 أعوام، اقترب مونتَنْيار من جابر وأسامة وعزير، في مراحل مختلفة من حياتهم، منتقلاً من طفولتهم إلى سنّ البلوغ، وكاشفاً علاقتهم المعقّدة مع والدهم، إبراهيم ديليتش، الداعية الإسلاميّ المتطرّف، الذي يُحكَم عليه بالسجن عامين، بعد عودته من رحلةِ أسبوعين إلى سورية، للاشتباه بمساعدته متطرّفين إسلاميين، وتجنيد بوسنيين للذهاب إلى سورية والعراق. يستبعد الأبناء هذا، ليس لأنّ والدهم غير عنيف، بل لإصابته بعرجٍ. عقب الإعلان عن عقوبته، يجلس الأب مع أبنائه، ليلزمهم بواجباتهم في غيابه، طالباً أنْ يتولّى جابر الأعمال المنزلية وإدارة الممتلكات، والبحث عن عمل في المدينة، والاهتمام بشقيقيه؛ وأنْ يرعى أسامة الماشية، ويواصل تجارتهم في أسواق الثروة الحيوانية المحلية؛ وأن يُتابع عزير دراسته، ويساعد شقيقيه عندما يستطيع ذلك. مع مرور أشهر، تُختَبر روابط الإخوّة بينهم، والولاء لوالدهم.
متروكون بمفردهم للمرّة الأولى، يتعيّن عليهم التكيّف مع الحرية المُكتشفة حديثاً، المثيرة والمخيفة في آنٍ واحد، والمُثقِلة عليهم، في مقابل الاستماع إلى رغباتهم الخاصة. جابر (18 عاماً) أكبرهم، يحلم بالفرار والحرية، والعمل في ألمانيا. يتولّى فجأة دور الأب، وهو يُصارع القلق والتقلّب، المُعتادين في مثل سنّه، ما يدفعه إلى تذوّق الأشياء الممنوعة. أسامة شديد التعلّق بالتعاليم الراديكاليّة لوالده، فيحلّ محله كشيخٍ متشدّد، بينما يجهد عزيز في مواصلة دراسته، التي يكرهها.
ينتشر في أسامة وعزير تمرّد المراهقة، فيتهرّبان من مسؤولياتهما، ويلومان شقيقهما لقيامه بالشيء نفسه. القصص التي رواها لهم والدهم عن مشاركته في حرب البوسنة تختلط بالتأثيرات الحديثة للإسلام الراديكالي التي يرونها، من دون رقيب، عبر الإنترنت، والتي تتحدّى معتقداتهم الأيديولوجية الأساسية. المثير للانتباه أنّ أسامة وياسر يتأرجحان في تطرّفهما المُراهِق، بينما يتجاهلان الدين عامة، كالصلاة وقراءة القرآن.
فهِم جابر التناقضات بين مُثل والده والواقع. أسامة، رغم ذلك، متأثّر بها بشدة. أمّا الصراع على السلطة، وألعاب الحروب على الهاتف بين أسامة وعزير، فمُثير للانتباه. أسامة ـ الغاضب والمثالي، الذي يخفي ضعفه ـ هو الأروع. مُشاجرته الصغيرة مع عزير، بسبب أمره لأخيه الأصغر بقراءة القرآن، وتفاعل أسامة مع رعاةٍ في منتصف العمر حول نار المخيم، يُعالِجَان بشكل آسر القضايا المعقّدة للصبي، وآرائه المحدودة، عبر نظرةٍ غير حيادية.
يسخر عزيز من أسامة المتديّن، بشدّة، بسبب تقواه. يتغيّر شكل عزيز وينضج، مع بلوغه مرحلة المراهقة. يحاول جابر إدارة استيائهما وحماقاتهما، ويتابع حياة الكبار، الخاصة به ـ أي حياة المدينة، وصخب المدارس والنوادي، والصداقات، والخمر ـ إلى الروتين الصارم، المتمثّل في الرعاية والجزّ والذبح. صراعات الأخوة، التي تُسبّبها السلطة الدينية والأبوية، تُشبه صراعات كثيرين في المجتمع المعاصر.
يرصد فرانتشيسكو مونتَنْيار رغبات الإخوة وإحباطاتهم وصراعاتهم، في انتقالهم إلى مرحلة الرجولة، فيتّضح أنّ غياب البطريرك المتسلّط فرصةٌ ثمينة لهم لتحديد هويتهم ومساراتهم، رغم أنّ مصيرهم مُحدَّد فعلياً، إذْ يصعب عليهم الهروب من ظلّ والدهم، الذي يلوح في الأفق. هناك أيضاً التوقّعات والتصنيفات المجتمعية التي تحاصرهم. المثير للانتباه أكثر، أنّهم من دون الشخصية الصارمة لوالدهم، وحضوره الفاعل في إبقائهم تحت سيطرته، يكون وجودهم مُهدَّداً بشكل متزايد.