- الصور والفيديوهات متدنية الجودة نشرت كوسيلة مقاومة ضد بروباغندا الاحتلال، لعبت دوراً في الثورات العربية وخاصة السورية، بينما حاولت حكومة الاحتلال تشويه صورة حماس.
- جان-لوك غودار استخدم السينما لتفكيك رواية الاحتلال وفضح استخدامه للإعلام، مؤكداً على قوة السينما والصور كأدوات ضد البروباغندا في عصر الاستهلاك الرقمي.
بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي غدا العالم ورديفه الافتراضي منقسماً، ربما لهول الكارثة أو لقربها، صار العالم كله في جهة وقطاع غزة وناسها في جهة أخرى. جهة في مقاعد الفرجة، بينما غزة وناسها يلعبون دور المؤدي عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
يتسمّر العالم يومياً مراقباً ومترقباً، وكأن غزة وناسها استحالوا إلى ما يشبه تلفزيون الواقع. تلفزيون يقدم لنا صورة خاما، صورة لم يتم المسّ بها، صورة تعكس هول المأساة وقسوتها، صورة سيموت الآلاف قبل أن تحدد لحظة نهايتها. حالة الفرجة مسيطرة على هذا الواقع، وكأن ما يراه روتين يومي، أي جرعة من الألم تسمح له بأن يتضامن وفق قواعد عالم هذه الصورة، "قواعد السوشيال ميديا" عبر منشور أو حالة مؤقتة.
الصورة شرخ في بروباغندا الاحتلال
يسعى هذا الضغط والكثافة في النشر إلى خلق فجوة في سردية عَمِل الاحتلال على نشرها على مدار أعوام، ويضع العالم أمام الحقيقة، ما يخلق التضامن الذي يعتمد أساسه على المعرفة وإدراك التفاصيل وحيثيات القضية المتضامن معها.
تشكل الصور والفيديوهات متدنية الجودة، سلاح مقاومة في وجه إعلام وسرديات السلطة. استُخدم هذا السلاح بكثرة في ثورات الربيع العربي، وكان أغزر استخدام له في الثورة السورية؛ حيث لعبت الفيديوهات متدنية الجودة دورا أساسيا في الصراع، حتى باتت القنوات الإعلامية تتسابق لشرائها واحتكارها. وصار بعضها وثيقة يمكن استخدامها في المحاكم، كقضية مجزرة التضامن التي أثيرت بواسطة فيديوهات مسرّبة متدنية الجودة.
تنبهت الحكومات إلى سلطة هذه الفيديوهات متدنية الجودة، وعمدت حكومة الاحتلال رغم سنوات من خبرتها الإعلامية وعقود من بنائها بروباغندا "دولة النور في الشرق الأوسط المظلم"، إلى دخول عالم الصور متدنية الجودة ومحاولة السيطرة عليه، بنشرها مقاطع فيديو وصور للتنكيل بالجثث، وقطع رؤوس الأطفال، وحرق أسرى حرب، لتقول للعالم إن حركة حماس مسؤولة عن هذا العمل.
اللعب بقواعد السلطة الإعلامية... غودار نموذجاً
في حال القضية الفلسطينية كان التضامن العالمي معها موجوداً دوماً، على الرغم من السردية المضادة التي خلقتها دولة الاحتلال. هذه السرديات حاولت اقتحام عالم السوشيال ميديا كغيرها، عبر عدد من الصفحات الموجهة للجمهور الأوروبي أو العربي. حاول الاحتلال إذاً طيلة هذه السنوات تقديم نموذج عن إسرائيل وصورة ثقافية عن دولة متعددة الحريات تقبع في بقعة جغرافية خطيرة. لكن مع حرب الإبادة بدأت هذه الصورة تتكسر وتتعرض للتشكيك. إذ فضح العدوان المتواصل ضعف السردية الإسرائيلية وهشاشتها، تلك السردية القائمة على ظلم تاريخي والتعاطف، نتيجة الحاجة الأوروبية إلى التكفير عن ذنب المحرقة.
لكن في المقابل، عمل العديد من الفنانين والمثقفين على تفكيك رواية الاحتلال، وفضح استخدام وسائل الإعلام، ومنهم رائد الموجة الفرنسية الجديدة وأحد مؤسسيها وهو المخرج جان-لوك غودار، المتضامن دوماً مع قضايا الشعوب المضطهدة. ومن خلال تضامنه يتخلى عن نموذجه السينمائي المعتاد ومشروع حياته، وهي سينما الموجة الجديدة، ليقدم وثيقة سياسية تتحدث عن البروباغندا والأثر الإعلامي.
في عام 1970 كان غودار يصوّر فيلمه عن المقاومة الفلسطينية وحركة الفدائيين الفلسطينيين بين الأردن ولبنان، بدعم من جيش التحرير الفلسطيني، لتحدث فاجعة أيلول الأسود، ويغادر المخرج الفرنسي إلى بلاده، حاملاً معه أرشيفاً هائلاً من الوثائق والفيديوهات التي صورها، ويصنع فيلمه البديل المعنون بـ"هنا وهناك". شكّل الفيلم موقفاً سياسياً رافضاً، موقفا يحاول الإضاءة على الحقيقة، يضع لأول مرة المشاهد الأوروبي في موقع مقارنة مع نظيره الفلسطيني في الجانب الآخر من العالم.
اعتمد غودار في "هنا وهناك" على استخدام الثنائيات لتكون معادلا وحامل أفكاره وطروحاته. في الفيلم ثنائيات تتوالى تباعاً الصمت/الصخب، الغنى/الفقر، الحقيقة/الوهم، الأنا/الآخر وغيرها، هذه الثنائيات التي تشكل العالم المعاصر المتفرج على الكارثة والقاع على حدودها دون تفاعل.
كان اللافت في الفيلم هو أسلوبه، فكان تجريبيا بحتا يعتمد على الشكل البنائي للدعاية كعامل جمالي، فتشكل الصور الثابتة والمكتوب عليها، والمعالجة عن طريق المونتاج أغلب زمن الفيلم، هذه الصورة التي تحاكي عالم السبعينيات والطبقة الوسطى الأوروبية المتسمرة أمام شاشة التلفاز والتي تتلقى الدعايات الاستهلاكية.
ينبش غودار في التاريخ النضالي محاولاً تقريب الواقعة من ذهنية المتلقي، فهو يزامن الأحداث التاريخية، ليمر تارة على الثورات العربية ويضعها في مواجهة التغيرات الحاصلة في أوروبا كاتفاقية سايكس-بيكو والثورة البلشفية.
نمرّ على تجربة غودار في "هنا وهناك" لالتماس خطوط التشابه بينها وبين الثورة الحاصلة في عالم السوشيال ميديا. فغودار طوّع أسلوبه السينمائي واختزله وشوه الصورة واستخدم الدعاية لتحدي التلفزيون وثقافة العصر السائدة في السبعينيات. ببساطة استخدم وسائل نراها تستخدم اليوم بكثرة من الصور متدنية الجودة إلى الفيديوهات المبتورة، والفيديوهات التي تتقصى عن الإشاعات المغلوطة.
ربما لم تكن حرب غودار بضخامة وهول ما يشهده العالم المعاصر اليوم لانحصار الجمهور في شريحة معينة مهتمة بالحدث وقتها. لكن ما يواجهه ناشطو اليوم وفنانوه هو امتداد الحدث ليصبح متواجدا في كل مكان وزمان؛ إذ أننا في مجتمع "الاستعراض والفرجة" بوصف غي ديبور، عصر تتحول فيه كل الأشياء إلى أرقام.
وبضياع المضمون يصبح المعنى والسياق والقيم أمورا ثانوية تهمش مقابل الأرقام والريتش، وبات التضامن اليوم يقاس بالأرقام، ليتحول إلى تضامن استهلاكي مشروط بعدد من المشاهدات.