التباعد الفيزيائي وكورونا: معركة رهاب اللمس ضد هرمون العناق

20 أكتوبر 2020
يمنحنا هرمون العناق شعوراً بالإيجابية والثقة وأننا على ما يرام (Getty)
+ الخط -

سرقت ستيفاني (ماريون كوتيار) المشرط من الممرضات، محاولةً الانتحار في فيلم Rust and Bone، من إنتاج 2012. أصابتها نوبة اكتئاب حادّة بعدما تحسّست فقدان قدميها. تغيّرت علاقتها بجسمها بعدما كان وسيلتها للتواصل مع الدلافين وتدريبها، وكذلك الاستمتاع بهوايتها في الرقص ليلاً.

أصبح الكرسي المدولب وسيلتها للتنقل، وفقدت رغبتها في الحياة والفرح، إلى أن هاتفت آلان (ماتياس سهوناتس) الذي جاء إليها وفتح ستائر شقتها وأدخل إليها ضوء الشمس، ثم ذهبا معاً إلى البحر.

تحسّست ستيفاني حرارة الشمس على جلدها، وسمحت للبحر بتبليل بشرتها. استقبلت شعور الطبيعة على جسمها بعدما كانت ترفض ما أصبح عليه وتصالحت معه. لكنها لم تتصالح كلياً مع ذاتها، حتى تشاركت لحظات حميمية مع آلان، لتكتشف جسمها من جديد وتستعيده بقدراته الكلّية في الاستمتاع برغباتها الحسيّة والنفسيّة.

لم يفقد العالم قدميه كما ستيفاني، لكنه فعلياً فقد الاتصال الجسماني بسبب جائحة كورونا. أصبح التباعد لمترين وعدم اللمس وارتداء الكمامات والقفازات هو الأسلوب الوقائي الذي نحاول التأقلم معه. تخلّينا عن العناق والمصافحة والقبلات، وصرنا نلوّح لبعضنا عن بعد أو بأقدامنا، حتى إن البعض كان مبدعاً بما يكفي ليجعلها رقصة ممتعة.

نتنبه لردّ فعلنا العفوي للعناق بالتذكّر أنه لم يعد مقبولاً صحياً أو اجتماعياً، وأن المألوف الجديد هو عدم اللمس ولا الاقتراب ممن نتكلم معه. والملامسة سلوك حتميّ في حياتنا لا يمكننا العيش من دونه. فرغم ارتداء القفازات، تولّد شعور بالخوف والتردّد قبل ملامسة أي شيء خوفاً من انتقال الفيروس. صار الشعور مرافقاً إذا ما أردنا فتح باب التاكسي، أو تناول قهوتنا المفضلة في المقهى الذي نرتاده، ومثلها من المواقف التي كانت تحدث بتلقائية دون أن تأخذ منّا عناء التفكير فيها.

رهاب اللمس

أصبح يُعرف ذلك بـ"رهاب اللمس" كما سمّاه موقع Texas Medical Center الطبي. لكن ذلك الفقدان الملمسي أدّى إلى خلق شعور الفقد الذي أُسمي skin hunger أو "جوع البشرة" كما ذكر الموقع نفسه.

عندما فقدنا اللمس المتبادل بكل أشكاله الشخصية والاجتماعية العرفية، انتبهنا إلى ما كان يضيفه اللمس إلى حياتنا النفسيّة والدّعم المعنويّ الذي نحتاجه في يومياتنا. سرّ هذا الشعور الإنساني، تبعاً للموقع الطبي، هو نتيجة بيولوجية لجسمنا ينتجها بعد عناق من نحب أو بقبلة أو لمسة محبّة: الأوكسيتوسن أو ما يعرف بـ"هرمون العناق". يمنحنا هذا الهرمون "الدافئ" شعوراً بالإيجابية والثقة وأننا على ما يرام. وأيضاً يقوي شعور الترابط العاطفي والانتماء الاجتماعي، ويخفّف شعور الخوف والتوتر.

دوبامين

بالإضافة إلى "هرمون العناق"، يفرز جسمنا هرمون "الدوبامين" كما تؤكد المعالجة النفسية ليا حرب في مركز المعالجة النفسية والتدريب "Brain Station"، لـ"العربي الجديد"، ما يمنح الإنسان شعوراً بالراحة والفرح لأنه يشعره بالأمان وأن لديه شخصاً يهتم لأمره ويشعره بالعاطفة تجاهه وأنه "سنده".

فاللمس حاسة مهمة جداً بوصف المعالجة ليا، لأنه عندما نقبّل أمنا وأختنا ونصافح بالكف، يمنحنا ذلك شعوراً بالعاطفة مع الآخرين. إذ يدفعنا هرمونا "الأوكسيتوسين" و"الدوبامين"، تبعاً لحرب، إلى التعبير أكثر وتعديل مزاجنا.

تقوّي حاسّة اللمس الروابط بين الشخص والآخرين إن كانوا من الأهل أو الأصدقاء. ويمنح وجودها مزاجاً جيداً يساعد الشخص. لذلك تكمن أهمية هذا الرابط الذي لا يستطيع الإنسان استرداده بطرق أخرى. هذ الأثر لا يؤدي بحسب علم النفس إلى الاكتئاب، لكنه يمكن أن يكون إحدى المشاكل المؤدّية إليه.

يختلف تأثّر كل شخص عن آخر بحسب طبيعته الحسّية، وبقدر ما تهمه هذه الحاسّة، يمكن التباعد الفيزيائي أن يكدّر صفوَه. ويمكن أن تؤثر في أفكاره وأن تشعره بأنه غير مهم (لأصدقائه وعائلته)، ما ينعكس عليه فكرياً وفيزيائياً.

سيشعر الأشخاص الذين يحبون الاتصال الجسدي بهذا النقص في حياتهم اليومية، ما يؤدّي إلى الشعور بفراغ معيّن لا يمكن تعويضه بسهولة بأساليب وطرق أخرى. على عكس بعض الأشخاص الذين لا يتأثرون إذا ما فقدوا الاتصال الجسدي مع رفاقهم ويكتفون بوجودهم إلى جانبهم ويستطيعون التواصل معهم هاتفياً، أو حتى شخصياً.

تصف المعالجة حرب المسألة بـ"الحسّاسة بعض الشيء"، فلا يمكن ملء هذا الفراغ أو إيجاد البديل له بسهولة. يمكن التعبيرَ الكلامي أن يعوّض مع الأصدقاء حين نكون معهم، وليس الانعزال والبعد. والقول للأشخاص المقربين منّا كم هم مهمون بالنسبة إلينا وكم نحن سعداء بوجودهم في حياتنا، خاصة إذا ما كانت العادة مع شخص معيّن أن نمنحه اهتماماً جسدياً أكثر منه كلامياً أو عاطفياً.

فالقول: "لا أستطيع أن أغمرك أو أحضنك، لكنني قادر على أن أقول لك كم تعني لي وكم أحبك" يمكن أن يعوض قليلاً عن الفقدان الجسدي، لكنه مرة أخرى لا يستبدله.

طرق فريدة

وتلفت المعالجة حرب إلى أن للناس طرقهم الفريدة في التعبير. لذلك، يجب أن يجدوا طريقتهم الخاصة وأن يشاركوا ذلك مع المقربين، وكيف يفضلون أن يعبروا لهم عن حبهم والطريقة الأنسب لاستبدالها عن التعبير الجسدي. والهدف من ذلك كله أن يشعر بدعم الناس المحيطين به وأنهم إلى جانبه حتى لو لم يكن ذلك فيزيائياً.

يشعر الأشخاص الذين يحبون الاتصال الجسدي بهذا النقص في حياتهم اليومية مما يؤدّي للشعور بفراغ معيّن لا يمكن تعويضه بسهولة

ومن أهمّ أشكال الدعم، بحسب المعالجة حرب، الدعم العقلي الذي يضاهي الدعم الجسدي إذا لم يكن أكثر. بالإضافة إلى التعبير الكلامي، العناق والقبلة عن بعد هما من أشكال التعويض. وساعد ذلك أن التواصل على الإنترنت أصبح جزءاً من حياتنا اليومية، لذا نملك الخيال لاستخدامها.

وبما أن التواصل لا يزال موجوداً ومتاحاً مع الأصدقاء والعائلة، وما زلنا نرى بعضنا، تفضّل المعالجة حرب أن تسمّيه "تباعداً فيزيائياً" أكثر منه "تباعداً اجتماعياً".

الحياة الجنسية

وسواء كان التباعد فيزيائياً أو اجتماعياً، فقد أثرت الجائحة بتفاعلاتنا في الجانبين. كذلك كان لها مترتباتها على حياتنا الشخصية الحميمة. وفي ما يخصّ هذا الجانب، تعتقد الدكتورة ساندرين عطا الله، المتخصصة في الطب والعلاج النفسي الجنسي، أن كوفيد-19 أثر بطريقتين مختلفتين في الحياة الجنسية لدى الأشخاص.

من الناحية الأولى، عزّز الحجر المنزلي الحميمية بين الشريكين في بعض البلاد. إذ أتاحت لهم هذه الفترة قضاء وقت أكبر مع شريكهم، وبالتالي استكشاف جوانب جديدة في حياتهم الجنسية. ولم يقتصر ذلك على الحياة الحميمية فقط، بل تعدّاها إلى الحياة والتواصل الاجتماعي الذي جعل الناس يلجأون إلى طرق جديدة، غير التقبيل والعناق، للتعبير عن حبهم واشتياقهم لأهلهم وأصدقائهم من خلال العيون التي لم تغطّها الكمامات أو التعبير الشفهي عن الرغبة في حضن من نحب.

أيضاً، يلجأ بعض الأشخاص إلى استشعار ذواتهم وملامستها والاتصال بجسدهم من خلال تحسّس أشعة الشمس على جلدهم ومداعبة الهواء لجسمهم وشعرهم.

في المقابل، تركت الجائحة آثاراً غير مرغوب فيها، خاصة للمترتبات الأخرى التي رافقتها، كالأزمة الاقتصادية التي سببتها، والخوف من الإصابة بالمرض. يضاف إلى ذلك الأوضاع الأمنية غير المستقرة في بلاد معينة.

تربط ساندرين عطا الله ذلك بالأيديولوجيا السائدة في المجتمع الذي ينتمي إليه الأفراد، والاتصال الاجتماعي والعمل من المنزل. إذ تؤثر هذه العوامل، بالإضافة إلى كوفيد-19، بالحياة الجنسية.

كل هذه الأسباب أدّت إلى صعوبة وصول الأشخاص إلى النشوة. يضاف إلى ذلك تعذّر الاستمتاع الكلّي بحياتهم الحميمية وتقلّص الإحساس باللذة وخُفوت في الرغبة. فمثلاً، تعطُّل البعض عن أعمالهم أدى إلى بقائهم في المنزل، ما أثر بخصوصية من يشاركهم المكان، فحُرِموا ممارسة حميمياتهم. من جهة أخرى، أدّى العمل من المنزل إلى النتيجة ذاتها. أما في حال إصابة أحد الشريكين بالجائحة، فالتباعد لن يكون لأكثر من أسبوعين، وهي ليست بالمدة الطويلة.

عندما فقدنا اللمس المتبادل بكل أشكاله الشخصية والاجتماعية العرفية، انتبهنا إلى ما كان يضيفه اللمس على حياتنا النفسيّة

وترى عطا الله في حديثها لـ"العربي الجديد"، أن لكل مجتمع خاصيته المختلفة عن الآخر. ففي بعض المجتمعات، اللمس ليس أمراً مألوفاً لديهم، لذلك لم يختلف عليهم كثيراً ما فرضته كورونا في ما يتعلق بالتباعد الاجتماعي. أما في مجتمعات أخرى حيث التلامس والمصافحة والتقبيل جزء من العادات الاجتماعية، نرى أن البعض التزم، وأن آخرين غير معنيين بكل هذه مسألة.

المساهمون