كشفت دراسة جديدة أن أسلاف غير الأفارقة ربما مروا بفترة تكيف طويلة وغير معروفة سابقاً استمرت نحو 30 ألف عام، قبل انتشارهم عبر أوراسيا (كتلة دولية تضم بعض دول قارتي آسيا وأوروبا المتلاصقة عند الحدود الجغرافية). في الدراسات السابقة، أشار باحثون إلى أن الإنسان تطور في أفريقيا منذ أكثر من 200 ألف عام، وإلى أن بداية الانتشار البشري الكبير خارج أفريقيا قد حدثت قبل 60 و50 ألف عام.
في الدراسة الجديدة التي نشرت يوم 23 مايو/ أيار الماضي، في دورية بروسيدينغز أوف ذا ناشونال أكاديمي أوف سَينسز Proceedings of the National Academy of Sciences، أشار باحثون إلى أن فترة الـ30 ألف عام تعرف بفترة "الجمود العربي"، وهي الفترة التي تكيف فيها هؤلاء البشر ببطء مع الحياة في مناخ المنطقة الأكثر برودة، قبل المغامرة في أوراسيا وما وراءها. كان مصدر البيانات الأساسي في الدراسة هو قاعدة بيانات مفتوحة تضم قرابة ألف جينوم بشري قديم. سمحت هذه الجينومات القديمة للباحثين باستعادة إشارات الانتقاء التاريخية التي لم تعد واضحة في الجينوم البشري الحديث.
"عنصر رئيسي آخر في تحليلنا كان تصنيفنا الوظيفي للجينات المختارة، والذي سمح لنا بالكشف عن عوامل الاختيار الأساسية (للمكان الصالح للعيش في الفترة الانتقالية)"، شرح المؤلف المشارك في إعداد الدراسة ريموند توبلر، وهو باحث في المركز الأسترالي للحمض النووي القديم، في جامعة أديلايد الأسترالية.
وقال ريموند توبلر، في حديثه لـ"العربي الجديد"، إن الارتباط بين الاستقرار البشري ودرجات الحرارة الباردة أصبح واضحاً عندما وجد الفريق أوجه تشابه وظيفية وثيقة بين الجينات التكيفية المكتشفة في الدراسة وتلك الموجودة في الدراسات المنشورة سابقاً، والتي أجريت على البشر والثدييات الذين يعيشون حالياً في منطقة القطب الشمالي.
لاحظ المؤلفون أن العديد من الجينات التكيفية التي كشفتها الدراسة الجديدة كانت معروفة بتفاعلها المباشر مع تلك التي لوحظت في مجموعات القطب الشمالي، وتشكل مسارات أيضية وفسيولوجية محددة مرتبطة بوظائف البرودة (مثل التمثيل الغذائي للدهون). رصد الفريق تفاعلات مماثلة بين الجينات التكيفية التي اكتسبها جنسنا من التزاوج مع نوعين من أشباه البشر القدامى الذين تكيفوا مع المناخات الباردة في أوروبا وآسيا، وهما إنسان نياندرتال وإنسان دينيسوفان.
ولفت توبلر إلى أن جميع البيانات الجينية والأثرية والمناخية التي حصل عليها مع زملائه تشير إلى شبه الجزيرة العربية باعتبارها ملاذاً معقولاً للبشر القدامى، حيث بدأوا بالتكيف مع درجات الحرارة المنخفضة، قبل أن ينتشروا عبر أوراسيا وبقية الكوكب. "تظل المناطق المجاورة الأخرى أيضاً معقولة للسكن في ذلك الوقت. لذلك سيكون المزيد من العمل الأثري مهماً في تحديد صلاحية فرضيتنا"، قال توبلر. وأفاد بأن "النتائج التي توصلنا إليها تشير إلى مجموعة متنامية من الدراسات الأثرية وعلم الحفريات والجينات التي تؤكد أهمية شبه الجزيرة العربية في تاريخ تطور الإنسان. تفترض دراستنا أن هذه المنطقة ربما كانت موقعاً للتكيف التاريخي المكثف في المجموعات البشرية التي سهلت الانتشار العالمي لأنواعنا، مما وفر طبقة جديدة من الأهمية لدور هذه المنطقة في التطور البشري".
ورأى هذا الباحث أنه من المرجح أن تثير أي دراسة تقترح تفسيرات جديدة للتاريخ البشري -مثل الدراسة الجديدة- بعض الانتقادات. وأوضح أن أحد الانتقادات التي قد توجه إلى هذه الدراسة هو عدم اكتمال السجل الأثري للفترات غير الرطبة في منطقة شبه الجزيرة العربية. وقال: "على سبيل المثال، تشير النتائج التي توصلنا إليها إلى أن البشر من المحتمل أن يكونوا قد استوطنوا شبه الجزيرة العربية لنحو 30 ألف عام قبل أن ينتشروا في بقية أنحاء أوراسيا، لكن السجل الأثري المحلي للاحتلال البشري غير مكتمل خلال تلك الفترة المعنية، إذ تركزت الأدلة الموجودة في الفترات الرطبة، ولكنها غائبة في الفترات القاحلة. لذلك من المؤكد أن اقتراحنا للاستيطان المستمر في شبه الجزيرة العربية مثير للجدل".