- يبرز الفيلم الحياة اليومية للمهاجرين المغاربة، معالجاً العقبات الاجتماعية والقانونية، ويستخدم موسيقى الراي للتعبير عن المشاعر وتعزيز البعد الثقافي.
- يعمق "البحر البعيد" النظر في قضايا كالعنصرية والهوية، مقدماً رؤية متعددة الأبعاد للحياة كمهاجر، ويتوازن بين الدراما والكوميديا، مسلطاً الضوء على الصراعات الداخلية والخارجية.
يبدأ "البحر البعيد" بلقطةٍ جميلة لمياه بحر تشقّها باخرة تبتعد عن الشاطئ، بينما ينظر نور بتدبّر نحو ضفة تبتعد شيئاً فشيئاً. نور شاب مغربي عشريني، مهاجر "غير شرعي" في فرنسا، في الفيلم الروائي الطويل الثاني للمخرج والمنتج المغربي سعيد حميش بن العربي، المُشارك في النسخة الـ63 لـ"أسبوع النقاد" (قسم "عروض خاصة")، في الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كانّ".
شخصيات أخرى تدور في فلك نور الدين (أيوب كريطع)، مانحة الفيلم طابعاً كورالياً جذّاباً وملحمياً. وفياً لوصية ألفرد هيتشكوك باستحسان البدء بالكليشيه، بدل الانتهاء به، يظهر نور الدين، في المشاهد الأولى التي تدور أحداثها عام 1990، رفقة خليلته الفرنسية وصديقَيه وخليلة أحدهما الجزائريين، ينفّذون عمليات سرقة بالسلاح، ويسهرون ليبدّدوا كلّ ما سرقوه ليلاً في الشرب والرقص على موسيقى الراي، ثم يمتهنون بيع الملابس والساعات نهاراً، في الأسواق الشعبية في مارسيليا.
الأمور تتعقّد حين يُقبَض عليهم من دون أوراق إقامة، فيتظاهرون بأنّهم برتغاليون. لكنّ نور يدفع الثمن، حين يحرق ضابط الشرطة سيرج (غريغوار كولان) جواز سفره، بعد ملاسنة معه في مشهد قوي، يقبض على قسوة كلبية وكامنة يبديها ضابط الشرطة بعيداً عن المعتاد، من شتمٍ وصفع. هذا اللقاء، الذي يُظنّ أنّه ينتهي هنا، يحمل في الثلث الثاني من الفيلم تطوّرات مليئة بمصادفات ميلودرامية، تعطي الفيلم طابعاً فصلياً وعمقاً روائياً، إذْ ينبري كلّ جزء منه لقصة نور عام 1992، ثم سيرج عام 1994، فزوجة الأخير عام 1996، قبل الفصل الختامي عام 1998.
مثلّث حبّ وكراهية غير اعتيادي، برع سعيد حميش في اللعب على أضلاعه بناقوس تحكّم درامي كبير، وحوار لافت بدقّته ورهافته، ليعكس بفضله نصّاً خبيئاً يقول الكثير عن علاقة الجاذبية والنفور التي تجمع المهاجرين المغاربيّين في فرنسا، لعلّ أبرز تعبير عنها مشهدٌ يسأل فيه نور الضابطَ سيرج: "لماذا تساعدني؟"، فيجيب: "لا أعرف".
يوجّه "البحر البعيد" نقداً لاذعاً لثقافة العنصرية، الكامنة في فرنسا (حتّى لدى الإيطاليين من عائلة سيرج)، والنظرة التحقيرية للعرب، بالهمس والغمز. لكنّه لا يستثني المهاجرين أيضاً من نقده اللاذع، حين يوضح نزعتهم إلى تمضية الوقت مع خليلاتهم والتظاهر بحبّهم، قبل أنْ يبحثوا عن نساء أخريات للزواج بهنّ. بل إنّ نقد تصرّفات العرب يصدر عن نور نفسه في لحظات ضعفه، على غرار اللقطات المؤثّرة التي يتحدّث فيها هاتفياً مع أمّه، في عزّ الصعوبات التي يعيشها. لكنّها، بدل مواساته، تلومه بناءً على ما تتناقله الألسنة عن تصرّفاته في فرنسا. تظلّ الأم خارج الحقل، إلى الفصل ما قبل الأخير (ليس أفضل أقسام الفيلم)، حين يعود نور إلى المغرب، ويواجه ماضيه.
من نقاط قوّة العمل استعمال موسيقى الراي لغرض مزدوج: ترسيخ مشاعر الفرح والغضب والخيبة والحزن بألحان شجيّة وأصوات مسكونة، خاصةً أنّ اختيار عدم وضع ترجمة للكلمات عزّز من فكرة أنّ الأغاني نفسها ترجمةٌ لصرخات الشخصيات المغاربية ونظراتها ودموعها بلغة الأحاسيس التي لا تضاهيها لغة في قوّة التأثير والنفاذ إلى مكنون النَفس البشرية، لتغدو ملجأهم في منفاهم، كمثل ما يشكّله البلوز للأفروأميركيين، والتانغو للأرجنتينيين. الغرض الثاني (ليس أقلّ أهمية) إحالة إلى أنّ المغاربة والجزائريين يغدون لحمة واحدة في مواجهة الصعوبات، والرقص على موسيقى الراي، خاصةً أنّ نور الدين يتحدّر من "وجدة"، في إشارة إلى مناطق التلامس، حيث ينتفي أي معنى للحدود الجمركية، فيتجلّى المشترك في الموسيقى واللغة والثقافة. لفتةٌ إنسانية رائعة، توضح وظيفة الفنان الحقيقي في البحث عن المشترك، في زمن يقرع فيه آخرون طبول الحرب.
يدين "البحر البعيد" بالكثير إلى لحظات الهزل التي تتخلّله، لتخلق توازناً بين الحلو والمرّ. بل لتقطّر ضحكاً حتى الدموع بين أصدقاء ـ على غرار "كم أحببنا بعضنا البعض" (1974) لإيتوري سكولا ـ من رحم المتاعب، كمشهد اجتماعهم لخِطبة شابّة للكهل حسن، الذي يحضر الموعد ثملاً (تفادياً للضغط النفسي)، فيفشل مسعاهم. هذا يبدو كأنّه طرف نقيض للمشاهد المؤثرة، التي نرى فيها حسن يشقّ حقول العنب وحيداً ومؤطّراً من الظهر، كنايةً عن المشقّة والجهد المبذول في عمل جاحد.
في القسم الأخير، ينسج المخرج وكاتب السيناريو سعيد حميش، ربما لأول مرة في السينما بعد "علي: الخوف يأكل الروح" (1974) لراينر فيرنر فاسبندر، قصة حبّ حقيقية بين مهاجر مغربي وساكنة أصلية، بشكل يقطع مع قصص الزواج للحصول على أوراق الإقامة، أو للإشباع الجنسي. لكنّ هذه العلاقة تسقط سريعاً في امتحان التصوّرات الجماعية، المُغرقة في العنصرية والأحكام الجاهزة من الجانبين.
اللافت للانتباه أيضاً أنّ "البحر البعيد" يبدو كأنّه دمجٌ خلّاق لشكل الفيلمين السابقين لمخرجه: الطويل "عودة إلى بولين" (2018)، من ناحية مواجهة أسئلة ماضٍ مرير، بالعودة إلى مكان الترعرع والانكباب على العنصرية الكامنة في المجتمع؛ والقصير "الرحيل" (2021)، بموضوع التمزّق والامتداد في الزمن، عبر التركيز على أحداثٍ طبعت الثقافة الشعبية (إخفاق هشام الكروج في تحقيق "الذهب" بأولمبياد سيدني عام 2000)، التي تجلّت في "البحر البعيد" في اغتيال مطرب الراي الشاب حسني على أيدي إسلاميين متطرّفين، أو الشغف بفريق "أولمبيك مارسيليا".
اقترب "البحر البعيد" من شرط إنساني مُعقّد للمهاجرين المغاربيين في فرنسا. تكثيف ميلودرامي، ونَفَس روائي، وشخصيات جذّابة، نجح في أدائها ممثلون بارعون، أبرزهم أيوب كريطع، من وجهة نظر صادقة لا تشوبها غرائبية أو بكائية. أمّا المؤكّد فكامنٌ في أنّ موهبة سعيد حميش تعد برؤيةٍ من الفئة التي تعيد تناول الثيمة نفسها من وجهات نظر عدّة، وأشكال متجدّدة وطموحة.