لا داعي إلى الحذر عند اتهام دولة الاحتلال الإسرائيلي بارتكاب إبادة جماعية وثقافية في قطاع غزة. المرافعة التي قدمتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدوليّة تُعتبر الأولى من نوعها. مع ذلك، ما زال كل من القصف والتدمير مستمرّاً، في حين ما زالت وسائل الإعلام الإسرائيليّة تبحث عن "صورة للنصر"، وسط رفض "أول جندي إسرائيليّ الالتحاق بخدمة العلم الإلزاميّة".
العدوان الذي ما زال في أوجه بعد مرور أكثر من 100 يوم عليه، إلى جانب اضطراب جبهتي سورية ولبنان، كلها لم تهدد الجهود الأركيولوجيّة الإسرائيليّة في تأصيل الانتماء للمنطقة، على الرغم من الانتقادات الشديدة التي تتعرض إليها هذه السردية الاستعماريّة. يمكن لمتابع الصحف الإسرائيليّة أن يقرأ مثلاً عن وجود عملة معدنيّة تعود إلى زمن "المعبد الأوّل"، أي قبل ما يقارب 2500 عام، قرب تلال الخليل. المفارقة، أن العملات المشابهة "ظهرت في إسرائيل من دون معرفة سياقها بدقة"، حسب تصريح مدير مديرية الآثار.
خبر آخر انتشر عن أنفاق تاريخية قديمة كان يختبئ فيها اليهود سابقاً، وتعود إلى الحقبة الرومانيّة، بل ربما قبلها، وهي ملاجئ للهرب من الحرب، التي اضطر اليهود قبل ألفي عام للجوء إليها هرباً.
الخبران مثيران للاهتمام؛ فالأول يحاول تأصيل المنطقة بناء على عملات من دون علامات أو رموز، والثاني يدل على "قدم" اضطهاد اليهود في المنطقة ومحاولاتهم الدائمة النجاة بحياتهم. وكأننا هنا أمام امتداد للسردية التي تراهن على أن اليهود كانوا دوماً "َضحية أبديّة". هكذا، يختلط الديني مع الأركيولوجي، مع غموض المصادر، للقول (ربما) إن ما تحاول إسرائيل الترويج له (الخطر الذي يهدد وجود اليهود) ممتد إلى الآن، و"المخابئ" قديمة قدم التاريخ نفسه، و"الدياسبورا" قديمة قدم التاريخ نفسه. وهنا مفارقة نقف فيها على حدود العلم والتاريخ والخرافة، تُوظّف رسمياً لترسيخ سردية الضحيّة، إذ نقرأ في نهاية الخبر: "احتاج الأمر إلى قرابة ألفي عام وإنشاء دولة الاحتلال الإسرائيلي كي يعود اليهود نهاية إلى وطنهم الأم".
لذات كاتب مقال المخابئ، وفي التاسع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أي بعد يومين من طوفان الأقصى، تنشر صحيفة هآريتس مقالاً عن أول حمض نووي، يعود أيضاً لزمن "المعبد الأول"، يمكن تحليله وربطه بـ"اليهود الحاليين". هناك ما هو عرقي وعميق هنا، ويبرر خطاب الإبادة الذي يتبناه نتنياهو عندما شبّه الجنود الإسرائيليين بأحفاد يوشع بن نون الذين يقاتلون من أجل وجودهم.
نلاحظ هنا عدة خطابات يطلقها الاحتلال تحاول الدفاع عن الوجود التاريخي، ذاك الذي ينفي أي ذكر لوجود "آخرين" مهما كانوا. هناك فقط "الأعداء" المتمثلون بالرومان، الذين يريدون القضاء على "السكان الأصليين". وحالياً هذا الخطاب لم يتوقف، ما يكشف عمق تأثير عملية طوفان الأقصى، من جهة، على صورة إسرائيل بشكل عام التي وقعت في تناقض صارخ؛ هي إما "دولة استعمارية ترتكب إبادة" أو "أرض ميعاد لشعبٍ هجّر من آلاف السنين"، وكلا الصورتين لها دلائلها وقرائنها.
الاكتشاف الأركيولوجي، هنا، في زمن الحرب، يمثّل جزءاً من الهوية الوطنية المهددة، تلك التي تشعر بالخذلان من نتنياهو وحكومة اليمين المتشددة دينياً، التي لا مانع لديها من المخاطرة بحياة "مواطنين إسرائيليين يهود" أسرى في قطاع غزة، في سبيل الاستمرار، ما يعني أن "العدو" لم يعد آخر أو خارجياً، والاستخفاف بحياة الإسرائيليين نابع من موقف السلطة التي سلمها الحكم، تلك التي تحاول إثبات حضورها التاريخي من جهة، وتنسف تاريخها الاستعماري المعاصر من جهة أخرى. هذه المفارقة تدفع كثيراً من اليهود للتمسك بشعار "ليس باسمنا"، في دلالة على الاختلاف العميق بين التاريخ اليهودي والسردية الصهيونيّة، تلك التي تتضح يوماً بعد يوم أمام العالم بوصفها استعماراً لم يعد هناك مجال للجدل حوله.