بعد 56 عاماً، يعيد التاريخ نفسه، فيتجاهل الإعلام المصري ــ بتوجيهات من السلطة ــ الإشارة إلى ما يعرفه العالم كله عمّا يقع بين مصر والكيان الإسرائيلي. ففي عملية معبر العوجا، كما في نكسة يونيو/ حزيران 1967، غاب الإعلام المصري عن التغطية.
تجاهل الإعلام المصري تفاصيل قيام الجندي محمد صلاح (22 عاماً) بقتل 3 جنود إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، قبل تصفيته، صباح السبت الماضي.
في النكسة، حاول نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر التغطية على ما لحق بالجيش المصري من هزيمة مؤلمة، حد انسحابه من الجبهة فوضوياً وعشوائياً، فلجأ المصريون إلى إذاعات عالمية مثل "بي بي سي" و"مونت كارلو"، لمعرفة الحقيقة الموجعة. أما اليوم، فمن غير المعروف سر محاولات السلطة للتعمية على تفاصيل عملية الحدود، في ظل إمكانية معرفة المصريين لتفاصيلها عبر منصات التواصل الاجتماعي. من الجانب الإسرائيلي، وبعد يومين من التكتم حول هوية الجندي، بدأت وسائل إعلام إسرائيلية الإثنين بنشر تفاصيل عنه.
واعتبر خبراء في مجال الإعلام أن هذا الاتجاه دليل على أن الإعلام المصري الرسمي قد غدا ــ خلال السنوات العشر الأخيرة ــ أسير التوجيهات الرسمية، وفقد مصداقيته تماماً، ما يشكل خطراً على الأمن القومي، بعد أن دفعت القيود الرسمية المواطنين للبحث عن تفاصيل هذا الحادث من وسائل إعلامية خارجية، ومن بينها الإعلام الإسرائيلي. في المقابل، أشار آخرون إلى أن حساسية الموقف وارتباطه بالعلاقات المصرية الإسرائيلية وبمقتضيات الأمن القومي المصري ووقوعه في سيناء أجبر الإعلام المصري على السير في ركاب وجهة النظر الرسمية، لكنهم اتفقوا أيضاً على أن مصداقية الإعلام المصري تراجعت بشدة خلال الأعوام الاخيرة.
وقال الناشر والسياسي المصري، هشام قاسم، إن غياب الإعلام المصري عن تغطية عملية الحدود "يعكس الكارثة التي يعاني منها، إذ غدا أسيراً للتوجيهات الرسمية التي أغلقت الباب تماماً أمام أي تغطية إعلامية متميزة لأي حدث". وأضاف قاسم أن الإعلام المصري "يعيش وضعاً حرجاً، ويفتقد المهنية والمصداقية". وتساءل في حديثه لـ"العربي الجديد": "كيف ننتظر تغطية مهنية متميزة لإعلام يسيطر عليه ضابطان في الأجهزة الأمنية غير متخصصين ولا علاقة لهما بالإعلام جملة وتفصيلاً؟".
ولفت إلى أن غياب التغطية المتميزة للإعلام المصري في مثل هذه الملفات يسدد ضربة قاضية له، "فهو يصر على الحديث مع نفسه، من دون مراعاة تبعات ذلك على الأمن القومي المصري؛ يصبح الإعلام الإسرائيلي مسؤولاً عن تشكيل الرأي العام في مصر نتيجة تغطيته المتميزة وشبه المنفردة لهذا الحدث".
أما أستاذ الإعلام في جامعة قناة السويس، حسن علي، فيرى غياب تغطية الإعلام المصري لعملية الحدود من زاوية أخرى، موضحاً أن غياب التغطية المناسبة من الإعلام المصري هذه المرة مردها ليس غياب الكفاءة أو التقصير، "بل يعود لحساسية الموقف بين مصر وإسرائيل، لخطورة الحادث وتداعياته على علاقاتهما، وحاجة هذا الملف الخطير لنوع من التأني". وأضاف علي: "لم يكن أمام وسائل الإعلام المصرية من خيار إلا الالتزام ببيان وزارة الدفاع الذي جاء متأخراً نوعاً ما". ونبه إلى أن "اعتبارات الأمن القومي المصري كانت حاضرة بقوة في التعامل مع هذه العملية، فمصر ليست بحاجة لفتح جبهة صراع جديدة مع إسرائيل، في وقت تعاني فيه من أزمات متتالية في الحدود الجنوبية مع السودان، وعلى الحدود الغربية مع ليبيا، لذا فإن هذا التعاطي من جانب الإعلام المصري يبدو مقبولاً".
ومع ذلك، أقرّ أستاذ الإعلام في جامعة قناة السويس بأن غياب التغطية المتميزة للعملية "يضع مصداقية الإعلام المصري الرسمي على المحك، شأنه شأن كل وسائل الإعلام الرسمية العربية"، مستبعداً، في حديثه لـ"العربي الجديد"، خروج الإعلام المصري بتغطية متميزة للعملية تحلل أسبابها وتداعياتها، باعتبار أن ذلك يخالف الواقع المر والمقيد للإعلام الرسمي.
ويثمن حالة التجاهل الرسمي لردود فعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي الذين وصفوا الجندي المصري بالبطل، واعتبروا إسرائيل العدو الأساسي للشعب المصري والعربي، وأن المعركة معه معركة وجود وليست معركة حدود، و"هو ما يخلق نوعاً من التوازن مع تناول الإعلام المصري الرسمي للحادث الذي التزم بالرواية الرسمية".
في السياق نفسه، اعتبر الصحافي والسياسي خالد داود أن "الإعلام المصري لم يكن يُتوقع منه تغطية أفضل للعملية، فهو طبقاً للأعراف المتبعة ملتزم ببيان المتحدث باسم وزارة الدفاع، لا سيما وأن الأمر كان مرتبطاً بجندي مصري، وبالحدود مع إسرائيل، وتبعات مقتل جنودها، لذا فالتقيد بالرواية الرسمية واعتبارات الأمن القومي هو الخيار المقبول في ظرف كهذا". ونبّه داود إلى أن القيود المفروضة على الإعلام المصري "هي التي تكبل يديه عن تقديم تغطية متميزة لمثل هذه الأحداث"، لافتاً إلى أن هذه القيود قد تدفع المصريين للجوء لوسائل إعلام أجنبية، تقدم تغطية متميزة للأحداث بشكل يهدد الأمن القومي، خصوصاً إذا كان الإعلام الإسرائيلي هو المصدر الرئيسي، وهو ما يتطلب إعادة النظر في دور الإعلام المصري في التعامل مع قضايا لا تتسم بهذه الحساسية. ورأى أن تعاطى المصريين مع العملية، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، شكل نوعاً من التعويض عن قصور الإعلام الرسمي، وهو ما ظهر في إشادتهم بالجندي المصري.