الإعلام الغربي في أوكرانيا: "الصراحة الدموية" والانحياز الكامن

18 مارس 2022
إجلاء أوكرانية من منزلها بعد قصفه في كييف (آريس ميسينيس/فرانس برس)
+ الخط -

بين المقاربة "البيضاء" للأحداث، وبين المعايير المهنيّة، وتغطية الحرب التي يضيع فيها الخطّ الفاصل بين الحقيقة والزيف، بالإضافة إلى المخاطر الجسدية، يُربك الغزو الروسي لأوكرانيا الإعلام. ومع استمراره، يستجدّ النقاش في الإعلام العالمي حول التغطية في الحروب، تحديداً تغطية المآسي الإنسانيّة والكلفة الباهظة للحرب التي يدفع ثمنها مدنيّون. أعادت الحرب في أوكرانيا هذا النقاش من جديد، بعدما كان فُتح مرات عدة سابقاً، وكان بينها العام الماضي خلال تغطية عودة طالبان لحكم أفغانستان، إذ اعتبر صحافيون أجانب حينها أنّهم لا يستطيعون أن ينحوا إنسانيتهم جانباً خلال التبليغ عمّا يحصل، وفرار الآلاف من البلاد خوفاً.

ليست الحرب الروسية على أوكرانيا الأولى من نوعها كنزاعٍ حول العالم، وليست الأولى التي يتأهّب الإعلام العالمي لتغطيتها، لكنّها فرضت طرقاً جديدة، وكشفت عن توجّهات مستجدّة، أو حتى عن آراء منحازة وعنصريّة كامنة خرجت إلى السطح مع التغطية في أوكرانيا، تحديداً في الإعلام الغربي. ففي اليوم الثالث على الحرب فقط، كان مراسلون أميركيّون وأوروبيون ينشرون عنصريّتهم بطلاقة، كما فعل مراسل "سي بي إس" تشارلي داغاتا في المقطع الشهير، وغيره من المراسلين والمذيعين الذين استمعوا لهذه الخطابات ولم يحاججوها، استمرّت على مدى الأسبوع الأول.

لم تتوقف التصريحات العنصريّة واللاإنسانيّة في الإعلام الغربي، فمنذ يومين فقط، بثّت قناة "سي أن أن" مقابلةً قالت فيها صحافية إنه "أمر واحد أن يستخدم غاز السارين في سورية البعيدة وأغلبها من المسلمين ومن ثقافة مختلفة، ولكن ماذا سيفعل الاتحاد الأوروبي عندما يحصل هذا في أوروبا..."، فيما لم يقاطعها أيّ من الموجودين في الاستديو.

مع استمرار الحرب واقترابها من الشهر، يستمرّ الإعلام الغربي باستخدام أساليب مباشرة وغير مباشرة للتمييز بين الضحايا، في انحيازٍ كامن يظهر بين السطور. من الاتجاهات الملاحظة بوضوح، اعتماد الإعلام الغربي "الحميميّة" في التغطية، إذ يحاول المراسلون أن يضفوا "صفة إنسانيّة" على تغطياتهم، سرعان ما انجرفت نحو العنصرية ضدّ شعوب أخرى كالعراق وسورية واليمن وأفغانستان، من الذين اضطروا للجوء بسبب آلات القتل في بلدانهم. ومنها أيضاً، نشر صورٍ ومقاطع فيديو تُظهر آثار القصف الروسي على مدن أوكرانية بينها العاصمة كييف، تُظهر بوضوح الضحايا، إن كانوا قتلى، أو لاجئين يحاولون الفرار. 

هكذا، بدت "الموضوعية" معياراً فضفاضاً يمكن تطويعه كي يلائم ضحايا معيّنين، وتضييقه كي لا يشمل ضحايا آخرين. هكذا، بات التعاطف فرض على الصحافيين، لا "عيب" يشوب تغطياتهم، وهو الردّ الذي كان غالباً ما يواجه به صحافيون ومراسلون حربيون في السابق، تعاطفوا مع ضحايا نُكّل بهم في حروب ونزاعات مختلفة. وهكذا أيضاً، باتت الدموية ضرورة خبريّة كي توصل للجمهور مدى فداحة ما يحصل في هذه الحرب، بينما كانت محظورةً في نزاعات أخرى، صوناً لكرامة الضحايا من جهة، ولعدم صدمة الجمهور من جهة ثانية. ولم تعد تغطية وجوه الأطفال نظراً إلى حساسية وضعهم ونشر صورهم اتّجاهاً لدى وسائل الإعلام، إن كانوا لاجئين يفرّون بحثاً عن الأمان، أو قتلى أرداهم القصف الجائر. كذلك، باتت صور الجثث على الطرقات تنتشر بكثافة في الإعلام نفسه، وليس فقط على مجموعات "تيليغرام" غير المفلترة التي تعجّ عادةً بصور دموية، أكثر منها على موقع "تويتر" مثلاً. بل باتت صحف عالمية أمثال "نيويورك تايمز" تنشر هذه الصور، حتى أنّ أحد أخبارها عن وفاة عائلة حاولت اجتياز طريق في كييف، تضمّن صورة الأم وطفليها وشخص رابع كان يحاول مساعدتهم، بوضوح، في الصورة الرئيسية للخبر، من دون أيّ تمويه.

إعلام وحريات
التحديثات الحية

فقد نشرت "نيويورك تايمز"، في السادس من مارس/آذار الحالي، صورة الضحايا الأربعة الذين حاولوا أن يجتازوا نهر إربين نحو كييف، هرباً من القصف الروسي القاتل، لكنّهم لم ينجوا. كان في الصورة الأم تاتيانا البالغة من العمر 43 عاماً، وأطفالها ميكيتا (18 عاماً) وأليسا (9 سنوات)، بالإضافة إلى متطوع في الكنيسة يدعى أناتولي بيريزنيي (26 عاماً) كان يساعد العائلة على اجتياز الطريق. انتشرت الصورة بكثافة منذ ذلك الحين، وكانت توثيقاً للثمن الباهظ الذي يدفعه المدنيون في أوكرانيا.

في العاشر من الشهر نفسه، نشرت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركيّة مقابلةً مع رجل يُدعى سيرهي بيريبينيس، أشار إلى أنّه اكتشف أنّ عائلته قُتلت في الحرب، جراء الصورة التي نشرتها "نيويورك تايمز". تعرّف على عائلته من خلال الحقائب وبعض الأغراض الشخصيّة. قال بيريبينيس إنّه لا يزال في دونيتسك يرعى والدته المريضة، لكنّ عائلته بقيت في كييف. لم ترد الأم أن تترك ابنها الذي يُمنع من المغادرة لأنه "بات في سنّ القتال"، وفق الصحيفة. أبلغ الرجل الصحيفة الأميركيّة أنّه "فقد معنى الحياة"، وأنّ "هذه جريمة حرب يجب أن يدفع ثمنها شخص ما، فقد مات أربعة أشخاص ونفق كلبان". 

في الثالث عشر من مارس/آذار، قتل الصحافي الأميركي برنت رينو جراء إطلاق نار على سيارة كانت تنقل صحافيين حاولوا اجتياز المنطقة التي كانوا فيها في إربين. صورة جثة الصحافي انتشرت عبر مواقع التواصل أيضاً، إضافةً إلى أوراقه الثبوتية وغيرها. في اليوم نفسه، نشرت مجلة "نيويوركر" عدداً ظهرت على غلافه مقاتلة أوكرانيّة تجنّدت للدفاع عن بلدها، فيما تحدثت إلى 30 من الشباب الأوكرانيين الذين حملوا السلاح جراء هذه الحرب، ما أثار مقارناتٍ حول ما إذا كانت المجلة ستبقي على اختيارها لو كانت الحرب في بلدٍ آخر مثلاً، إذ إنّ "المقاومة" باتت "امتيازاً أبيض" وفق آراء وسائل إعلام وشركات تكنولوجية وغيرها، عبّرت عن هذا الرأي تزامناً مع الحرب.

كلّ تلك الحوادث أعادت الحديث عن "الصراحة الدموية" الموازية لنشر الأخبار من أوكرانيا، إن كان عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو عبر وسائل الإعلام. في مقالٍ له في "واشنطن بوست" يوم الرابع عشر من مارس/آذار، كتب الصحافي يوجين روبنسن عن التغطية "الحميمة والصريحة والدموية للغاية" خلال الاجتياح الروسي لأوكرانيا، متسائلاً إن كان ذلك يعود "إلى الإمكانات التي منحتنا إياها الثورة التقنية؛ كالبث المباشر وتقنيات التصوير والتوثيق، أم أن هناك أشياء أخرى تتصل بالانتماءات والتحيزات لوسائل الإعلام في تغطيتها الخبرية؟".

أعطى روبنسون أمثلةً من سورية واليمن، مشيراً إلى أنّ "الحرب في اليمن تدخل الآن عامها الثامن، وقد كانت وحشية في كل شيء. كما أن الحرب في سورية هي أكثر دموية، واستُخدمت فيها أسلحة كيميائية. ولكن في كل مراحل هذه الحروب وغيرها من الصراعات، لم تعرض للمشاهد الغربي مثل هذه الصور الأولية والفورية للضحايا"، مستشهداً بما فعلته "نيويورك تايمز". وأضاف الكاتب إنّ "الأمر ليس أن الصحافيين لم يروا أو يوثقوا مثل هذه الفظائع في الحروب الأخرى، فقد صدم العالم بصور أطفال يتضورون جوعاً في اليمن، أو صورة الطفلة الفييتنامية وهي تركض عارية بعد أن احترقت بالنابالم؛ لكن المؤسسات الإخبارية كانت تقليدياً تتعامل بحساسية عالية بشأن نشر صور أشخاص قُتلوا في النزاعات. لكنّ ذلك يُعدّ ذلك نوعاً من المحرمات، وبخاصة عرض وجوه الضحايا، حيث كان هدف الإعلام هو نقل الخبر للقارئ مع حفظ كرامات الضحايا وعائلاتهم".

اليوم، مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، بات على وسائل الإعلام الكبرى أن تسأل نفسها عن القيم الأخلاقية المهنية التي ترى أنها تتمسك بها وتحميها. تساءل روبنسون عمّا إذا كان هناك شيء آخر غير التكنولوجيا متورط في الطريقة التي يتم بها تقديم الحرب الروسية على أوكرانيا، بهذا الشكل الذي يناقض ما جرت عليه العادة في الحروب الأخرى. ولخّص الكاتب السبب الذي يعتقد أنه يكمن وراء ذلك، برغبة هذه المؤسسات الإعلامية بالقول إن "هؤلاء أناس مثلنا تماماً، ويمكن أن نكون في خطر مثلهم"، ويضيف: "الغالبية العظمى من الضحايا في أوكرانيا هم من الأوروبيين والبيض والمسيحيين، يتحدث عدد غير قليل منهم بعض الإنكليزية، يرتدون ثياباً تشبه ثيابنا، ويسحبون حقائب تشبه حقائبنا، وأطفالهم يلعبون بدمى وقطع ليغو تشبه تلك التي يمتلكها أطفالنا، إنهم يبدون "مألوفين" وهم يركبون القطارات التي تنقلهم إلى أماكن اللجوء. وسواء عن قصد أو بغير وعي، فإن المؤسسات الإخبارية تجعل من هذه الحرب أكثر حيوية ومأساوية من خلال التركيز بشدة على الضحايا واللاجئين. إن وسائل الإعلام تدعو المشاهدين والقراء، إن لم تكن "تجبرهم"، على تخيل أنفسهم في ظروف مماثلة لظروف الضحايا".

تجبر وسائل الإعلام الجمهور على التعاطف مع الضحايا

توجّه الإعلام الغربي نحو تغطية متعاطفة مع الضحايا في أوكرانيا لا يعيبه، إن اقتُطع من سياق التغطية التي يعتمدها هذا الإعلام نفسه في بقعٍ أخرى من الكرة الأرضية. فالتمييز بين الضحايا، والتمييز في التغطيات بسبب العرق، وازدواجيّة المعايير هذه هي التي تعيب هذا الإعلام وتوجّهاته، وتعيب أيضاً السياسيين الغربيين الذين دعوا صراحةً إلى تفضيل الأوكرانيين كونهم "يشبهون الأوروبيين"، أي لأنهم بيض. فتفضيل ضحيّة على أخرى بسبب لونها، أو لاجئ على آخر، كما حصل على حدود أوكرانيا وبولندا حين مُنع السود من اجتياز الحدود بعد سيرهم لأيام هرباً من القصف الروسي، هو العار نفسه. هي نفسها التحيّزات العنصريّة التي تجعل من الأوكرانيين المدافعين عن بلدهم "مقاومين"، ومن السوريين والفلسطينيين والعراقيين واللبنانيين الذين قاموا بنفس الخطوة في بلدانهم، دفاعاً عنها، باختلاف السياقات والتاريخ، "إرهابيين"، بنظر هذا الإعلام نفسه. 

ذلك ما يشير إليه روبنسون في مقاله أيضاً، إذ قارن الضحايا الأوكرانيين بالعراقيين، مشيراً إلى أنّ المدنيين الذين قُتلوا وهُجّروا بسبب غزو العراق عام 2003 عانوا بدرجة لا تقل عن معاناة الأوكرانيين. لكن الحقيقة هي أن المشاهد أو القارئ الغربي نادراً ما تعرّف عن كثب على الضحايا، و"الذين في الحالة العراقية لم يكونوا أوروبيين ولا بيضاً ولا مسيحيين"، خاصة "عندما تكون القوات الأميركية هي التي تطلق صواريخ كروز وقذائف المدفعية" عليهم، وفق الكاتب. وفيما تمنى روبنسون السلامة لكل صحافي ميداني يحاول نقل الحقيقة، ميّز بين ما يفعله هؤلاء "الأبطال"، وبين التحيزات التي تتبعها سياسات وسائل الإعلام، متمنياً أن "يمتد التعاطف، بالدرجة نفسها، إلى ضحايا الحرب في كل مكان، لأنهم بشر كالشعب الأوكراني!".

المساهمون