الاولوية لإنتاج خطاب نقدي يلائم عصر الصورة

12 مايو 2023
"الجوكر" لتود فيليبس: مُشاهدات أكثر بكثير من عدد قرّاء قصيدة/رواية (روبن بَك/فرانس برس)
+ الخط -

 

لماذا لا يُدرّس النقد السينمائي في الجامعة المغربية؟

مرّت 3 أعوام على طرح هذا السؤال في "العربي الجديد" (20 إبريل/ نيسان 2020)، ولا يزال الوضع على حاله. هذه مُطالبة بتغيير الوضع، في زمن "حضارة الصورة".

عرفت الأعوام الـ3 انتشاراً أكبر لمنصات البث الرقمي للأفلام، وزاد عدد المهرجانات والقاعات السينمائية في المغرب. لكنّ الجامعة المغربية لا تزال تركّز على شرح حجاج الشعر، وكشف أسرار العروض، في زمن قصيدة النثر. تتناول التاريخ المكتوب، وتتجاهل المسلسلات والأفلام التاريخية. تركّز كلّيات الآداب على اللغة، لا على الصورة. كأنّ شاعراً أو روائياً حقّق، في قرن كامل، عُشر عدد مُشاهدات/ مداخيل فيلم واحد، كـ"الجوكر" (2019) لتود فيليبس، في عامٍ واحد.

هذه حقائق بالأرقام، تدعم المرافعة عن تحوّل ثقافي في بداية القرن الـ21. تحوّل يستتبع تغيّرات بيداغوجية وديداكتيكية، في زمن هيمنة الصورة على الوسائط كلّها.

1-) انقرضت المجلات الأدبية والصفحات الأدبية في الصحف، بينما لا تزال الجامعة تتحدّث عن الأدب، كأنّه حقل معرفي مهيمن.

2-) تقول الإحصائيات إنّ المغربي يطالع 15 دقيقة في السنة.

3-) أي رواية في المغرب تطبع ألف نسخة، تُباع في 5 أعوام.

4-) يقرأ متخصّصون نادرون الأدب والنقد الأدبي، وعددهم أقل من 200، سنوياً، في المغرب، بناءً على أرقام توزيع الكتب.

5-) رغم ذلك، تنغلق كليات الآداب عمّا يجري حولها، وتشتغل بما بقي من مجلاتها النخبوية وندواتها، مع ذلك العدد الصغير من القرّاء. مجلاّت مجبرة على نشر مقالات قصيرة.

6-) في المقابل، وصل عدد المشتركين في "نتفليكس" إلى 232 مليون مشترك في العالم، لكلّ واحد منهم 4 مشاهدين، ما يجعل الرقم أقلّ من مليار بقليل. أي مقال عن فيلم شاهده 1 بالمائة من المشتركين، يثير تفاعل عشرات الملايين.

7-) لنفترض أنّ المشتركين في العالم العربي يمثّلون 1 بالمائة، هناك أكثر من مليونين و320 ألف مشاهد للأفلام والمسلسلات لا تخاطبهم كلّيات الآداب.

8-) تساوي ميزانيات إنتاج الأفلام في السينما والتلفزيون في المغرب أضعافاً عدّة من ميزانية وزارة الثقافة كلّها. يتراجع تمويل النص اللغوي واستهلاكه لصالح الفنون البصرية. حتى الأغاني، صارت تُصوّر لتُسمع وتُرى.

9-) بفضل السينما، صارت روايات "هاري بوتر" أشهر.

10-) انقرضت الصحافة الورقية، تقريباً، وصارت الأخبار تُستهلك مُصوّرة لا مكتوبة.

11-) لهذه الثورة الرمزية في الوسيط مُعادل في العالم المادي. حالياً، يعرف العالم طفرة في إنتاج طاقات متجدّدة للتخلّص من الوقود الأحفوري.

إذاً، يحتاج المجال الثقافي طفرة كهذه، ليكون على صلة فعلية بالواقع.

حصلت هذه التحوّلات في البنية الثقافية. ألا تفرض التحوّلات تعديل هندسة البحث الجامعي، لينتقل من التركيز على تناول كتب التراث، إلى تناول الفنون التي يتابعها الشباب اليوم؟

طبعاً يُفترض بهذا أنْ يحصل. فالاستعارات البصرية أقلّ تشفيراً وغموضاً من الاستعارات اللغوية. إنّها تملك سَنناً، لا سُنناً، خاصاً بها. هذا يصنع مجد الفيديوهات القصيرة على "تيك توك". هذا تحوّل مهول، مدعوم بالأرقام، في عصر حضارة الصورة، بحسب ريجيس دوبريه، القائل إنّ الكلمات المكتوبة فَقَدت "قوّتها لصالح الصورة". حين سئل دوبريه، الذي يلاحظ بدقة ما حوله: هل يمكن لكتاب أنْ يُغيّر العالم؟ أجاب: "نعم، شرط أن يُقتَبس الكتاب، فيُصوَّر فيلماً أو سلسلةً، ويحقق ملايين المُشاهدات على مواقع التواصل". هذه هندسة فكرية جديدة، يجب على التعليم أنْ يتكيّف معها.

يعتبر الذوق التقليدي المصدوم أنّ كلّ ما يُعرض في "تيك توك" تفاهات، لا تعبير من البشر عن ذواتهم بلغة الجسد. حين يعجز ذاك الذوق عن فهم الظاهرة وتفسيرها، يشتم ملايين متابعيها بالتفاهة. الشتم علامة عجز عن إدراك أنّ الكاميرا تقدّم المعادل الأنثروبولوجي للمشهد، سلوكياً وبصرياً.

يفرض هذا التحوّل تغيير هندسة التعليم، لمواكبة حضارة الصورة.

عَدّلت وزارة التعليم العالي (المغرب) تسمية كليات الآداب إلى "كليات الآداب والفنون والجماليات". لكنّ موقع السينما هامشي في المقرّرات، وجُلّه تحت وصاية أساتذة العروض والبلاغة وتاريخ الأدب القديم. حين تعلن الكليات عن مناصب لتعيين أساتذة، يجري ذلك تحت بند "النقد الأدبي". لم يُذكر النقد السينمائي في وثائق وزارة التعليم العالي والجامعات. هناك أزمة في الخطاب حول الفن، لأنّ الخطاب الموروث لا يواكب التحوّلات على الأرض. وقع تحوّل هائل في المحتوى وطرق انتشاره. تفوّقت الصورة على اللغة. كيف يمكن إخراج النقد السينمائي من عباءة النقد الأدبي؟

 

 

لم يعد ممكناً كتابة بحث، نصفه تعريف بالمؤلف، وتلخيص للنظرية. حين يكتب ألف جامعي بحثاً كهذا، يُسبّب تراكماً هائلاً من التكرار خارج الموضوع.

نتيجة الغياب الفعلي للنقد السينمائي تتمثّل في أنّ نصف الفيلموغرافيا المغربية، الصادرة في الأعوام الـ10 الأخيرة، لم يُدرّس بعد. حتّى عندما يُتناوَل فيلم مغربي، يُركَّز على فيلم عمره 40 عاماً، ما يوفر للباحث تعاليق يستنسخها. هناك خوف من تناول الأفلام الجديدة. من يعترض، فليقدّم أمثلة مُضادة.

المطلوب إنتاج خطاب نقدي يلائم عصر الصورة، خصوصاً الصُّور السينمائية المتدفقة على الشاشة.

لا بُدّ من الاعتراف بأنّ هناك اختلافاً بين اللغة والصورة. تقدّم الجملة اسماً وفعلاً وحرفاً. يتحدّث النقد الأدبي عن المونولوغ، أو الحوارية (Polyphonie – Monologue)، بينما تُقدّم الصورة شكلاً ولوناً وحجماً ومنظوراً، ناتجةً من موقع الكاميرا. لذا، يتحدّث الناقد الفني عن أحادية اللون، أو تعددية الألوان (Polychrome – Monochrome).

هناك تحوّل في وسيلة التعبير، وأداة استهلاك المعرفة. تغيّر المشهد الفني بشدّة، منذ بداية القرن الـ21. هذا تحوّل كمّي وكيفيّ، لا يمكن التعامل معه بتكرار إرث القدامى. تغيّر الوضع. يصعب تطبيق منهج تحليل البلاغة على الصُّور. تبنّى طلبة كثيرون تحليل الخطاب البلاغي منهجاً لأبحاثهم، وهم يحاولون الإقناع والتأثير بواسطة الـ"لغوس" والـ"إيتوس" والـ"باتوس". لكنْ، في منتصف الرحلة، وجدوا أنفسهم في متاهة من الرمل. هذا منهج بلاغي لا صلة له بأفق انتظار الفرد في القرن الـ21. صارت الكاميرا وسيلة التعبير الأكثر انتشاراً في الفن، والحياة اليومية. حتى تحكيم مباريات كرة القدم تلعب فيه كاميرات الـ"فار" دوراً كبيراً.

حالياً، يغلب التواصل بلغة الجسد في عصر الصورة. الدليل: ملايين المُشاهدات في مواقع التواصل. هنا، الكاميرا أدقّ من أي راوٍ. حالياً، يحمل كلّ فرد 3 كاميرات على الأقلّ في هاتفه. نادراً ما يحمل قلماً. بحثتُ عن كاميرا في "غوغل"، فعرض 60 ألف مليون مادة في 48 ثانية. بحثت عن قلم، فعرض 600 مليون مادة في 40 ثانية.

تذكير للمتفلسفين: اختُرعت الكاميرا عام 1850، بعد وفاة إيمانويل كانت (1724 ـ 1804) وفريدريك فلهلم هيغل (1770 ـ 1831). مع ذلك، مشكوكٌ أنْ يكون الفيلسوفان قد تحدّثا عن جماليات الفن، الذي يُصنع بالكاميرا. المونتاج لغة بصرية لا مُعادل لها في اللغة (يعتبر التضمين في الشعر عيباً، مع أنّه مزيّة في المونتاج). يبني المونتاج علاقات بين عناصر متباعدة. هذه العلاقة تسحر في الفيديوهات القصيرة.

صارت الصورة تربط بين البشر اليوم. للصورة السينمائية لغة واحدة، وللأدب مئات اللغات. كلّ صورة موجهة إلى كلّ الشعوب، ولا تحتاج إلى ترجمة. فقدت الفوارق بين اللغات قيمتها بفضل الترجمة الرقمية، ودبلجة الأفلام والمسلسلات. عندما لم يحصل المنتخب المغربي على ضربة جزاء، في مباراة نصف نهائي "مونديال قطر 2022"، ضد منتخب فرنسا، ورفض الحكم اللجوء إلى الـ"فار"، رفع اللاعب أشرف حكيمي ذراعيه في حركة احتجاجية، موجّهة إلى ملايين المُشاهدين. جرى تقاسم الصورة ملايين المرّات، ولا تزال حيّة. حركة كهذه تسمح بفهم جزئية بصرية في فنّ الاحتجاج، وتعميم الحكم بها من طرف كل مظلوم يحتجّ، في أي مكان في العالم.

هذا تحول موضوعاتي ومنهجي. تغيّر المتن، إذاً يجب أنْ يتغيّر المنهج. يجب التسلح بمنهج نقدي حديث، يلائم حضارة الصورة التي نعيشها. نقد يحمل طموحاً معيارياً، ونظرية منهجية، كي يخرج النقد السينمائي من ظلّ النقد الأدبي. يجب إقرار النقد السينمائي في كليات الآداب والفنون، ليصل نقدُ الصورة إلى الجمهور الواسع.

لا بُدّ من نقدٍ سينمائي يتبنّى منهجاً استقرائياً تجريبياً، ويُحلّل الصُّور الجديدة، التي تكشف كونية الأحاسيس والمفاهيم والممارسات. لذا، يمكن أنْ تتواصل "الجمعية المغربية لنقاد السينما" مع رؤساء الجامعات، لتخليص النقد السينمائي في الجامعة المغربية من وصاية أساتذة الآداب القديمة والأندلسية والمحسنات البلاغية.

المساهمون