استمع إلى الملخص
- منذ سيطرة الحوثيين على مناطق واسعة من اليمن، تعرضت الموسيقى لحملات قمعية شديدة، شملت مداهمة قاعات الأعراس واعتقال الفنانين واحتجاز آلاتهم الموسيقية.
- "يوم الأغنية اليمنية" يسعى للحفاظ على الهوية الموسيقية اليمنية من القمع الداخلي ومحاولات الاستيلاء الخارجي، ويعزز الثقة بالموسيقى اليمنية كظاهرة وطنية.
ينظر اليمنيون إلى موروثهم الغنائي بنوع من الفخر، لكونه جزءاً أصيلاً من شخصيتهم وفرادتهم. وهذا الاعتبار المتعاظم لغنائهم، يُجسّد منذ عدة سنوات في الاحتفال بالأول من يوليو/ تموز من كل عام بما أُطلق عليه "يوم الأغنية اليمنية". اللافت أن هذه المناسبة السنوية جاءت من خارج الدوائر الرسمية، كذلك لم تقف خلفها جهات سياسية يمنية، بل جاءت ضمن تفاعل تلقائي للشباب على وسائل التواصل الاجتماعي. وبالتالي، أصبحت مناسبة مُعترفاً بها على نطاق واسع شعبياً ورسمياً.
بصرف النظر عن كون الطابع السائد للاحتفال بها لا يزال محصوراً بدرجة كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، غير أن دوافع ظهور المناسبة تضفي ميزة أخرى على "يوم الأغنية اليمنية"، إذ انطلقت تلقائياً بوصفها فعل مقاومة إزاء الحملات المُعادية لظاهرة الغناء التي تشنّها تيارات سياسية ودينية.
ولم تتوقف الحملات المُعادية للغناء، سواء كانت ممارسات دينية أو اجتماعية، لكنها امتلكت شكلاً من النفوذ السياسي في السنوات الأخيرة. ونتج من ذلك كثير من عمليات القمع والحظر، إلى جانب التحريض ضد ظاهرة الغناء والموسيقى في اليمن. ومنذ أن سيطرت جماعة الحوثي على مدينة صعدة في 27 مارس/ آذار 2011، أصبح الغناء من المحظورات في معقل الجماعة. ومع توسّع سيطرتها على المحافظات اليمنية، وسيطرتها على العاصمة صنعاء في سبتمبر/ أيلول 2014، لم تتخذ الجماعة إجراءات مباشرة ضد الغناء وممارسيه، لكن المدينة شهدت إجراءات تدريجية بغرض تحريم الموسيقى ومنعها في الفضاء العام. وكانت الإجراءات في المناطق ذات النسيج القبلي أو الريفي هي الأكثر قسوة. وبلغت حملات قمع الغناء ذروتها عام 2021، بعد إجراءات متتابعة شهدت مداهمة قاعات أعراس واعتقال فنانين، وكذلك احتجاز آلاتهم الموسيقية، أبرزها إيقاف الفنان اليمني المعروف فؤاد الكبسي لساعات في إحدى النقاط الأمنية خارج صنعاء.
ولم تكن تلك بداية استئناف حملاتهم لحظر الغناء، وليست النهاية. ففي مايو/ أيار الماضي، اعتقلت الجماعة ثلاثة فنانين في مدينة عمران بـ"تهمة" الغناء. وتداولت وسائل إعلام يمنية أخباراً مفادها أن الحوثيين أصدروا أوامر بمنع الغناء في الحفلات والأعراس في المدينة. كذلك في الأرياف ذات النسيج القبلي، لم يعد الغناء من الممارسات المُباحة في الأعراس أو أي مناسبات اجتماعية أخرى. لا يقتصر ذلك على مناطق سيطرة الحوثي. ففي تعز تعرضت الفعاليات لحملات تحريض شنّها متشددون. كذلك تعرّض حفل موسيقي أُقيم في ميدان الشهداء في تعز لاقتحام رجال أمن بأسلحتهم في الثاني من يوليو العام الفائت. وهو حفل تزامن مع مناسبة "يوم الأغنية اليمنية".
هكذا، اختفت الاحتفالات في المدينة بعد أن شهدت بعض مظاهرها لعدة سنوات. وكما يبدو، فظهور مناسبة تحتفي بالأغنية اليمنية لم يكن مجرد رد فعل على ممارسات قمعية يواجهها الغناء في اليمن، بل أيضاً ظاهرة مُسبقة لمواجهة مآلات متوقعة، بموجبها قد يصحو اليمنيون وقد اختفت مظاهر الغناء حولهم. هذا ما يُعبّر عنه الناشطون الأكثر تفاعلاً مع يوم الأغنية، إذ أصبح أي تقليل من طبيعة التعبير عنها، بمثابة مناهضة تصب في مصلحة توجهات قمع الغناء.
في هذا السياق، يقول عازف العود مروان كامل إن لكل بلد تراثاً موسيقياً ومهرجانات وأنشطة ومظاهر غناء حية، مشيراً إلى أن اليمن هو البلد الوحيد الذي يتعرّض فيه الغناء للخطر، سواء بالمنع أو القمع. ويرى أنه لهذا السبب جاءت فكرة "يوم الأغنية اليمنية".
وجرى إحياء أول مناسبة ليوم الأغنية اليمنية في الأول من يوليو 2019، ليصبح من كل عام مناسبة للاحتفال بهذا الغناء. وتُعد بادرة غير مسبوقة في أي بلد آخر بأن يصبح له يوم للاحتفال بأغنيته. يوضح كامل أنه للأسف لم يهتم، تزامناً مع المناسبة، بما يحيط الأغنية اليمنية من كارثة، بسبب توجه الحوثيين لمنع وإلغاء مظاهر الغناء. مشيراً إلى أن الغناء في عمران يتعرض لمنع رسمي، بعد أن أصبح محظوراً في صعدة وحجة، خاتماً قوله: "وقريباً سيكون في صنعاء". ويتفق كثير من الشباب والناشطين مع هذا المنظور، الذي يشارك المناسبة بوصفها فعلاً مقاوماً ضد ما يشهده الغناء من منع في اليمن. يرفض هؤلاء أي محاولة للتقليل من أهمية هذا اليوم، أو أي شكل من السخرية بحجة أن مظاهر الاحتفال ليست أكثر من "فسبكة" (أي مُمارسة على فيسبوك وحسب).
ومع أن ولادة "يوم الأغنية اليمنية" تمثّل تعبيراً عن رفض القمع الذي يشهده الغناء في اليمن، فهناك أسباب أخرى أيضاً، تكمن في خطورة ما يتعرض له كثير من الأغاني اليمنية لعمليات سلب. وتقول ناي عثمان في حديث إلى "العربي الجديد" إن الموسيقى آخر "ما بقي لنا من هويتنا التي يمكن لنا التفاخر بها أمام الشعوب الأخرى". تضيف: "اليمني مسلوب في كل شيء، حتى آثارنا سُلبت، وتبقى الموسيقى لنا كخيار يمكننا الحفاظ عليه من الاستلاب". وتشير إلى أن ذلك ما يمكن فعله برغم ظهور ألحان يمنية بطابع خليجي، تُنسب إلى الخليج، مثل أغنية "يا منيتي". ورداً على نقد مظاهر الاحتفال في يوم الأغنية اليمنية، تقول: "يمكن للجميع أن ينظر إليه بوصفه ترند سنوياً رائعاً، حتى تتعزز ثقتنا ونطور موسيقانا، ويعرف العالم الأغنية والموسيقى اليمنية بأنها كذلك عند سماعها، منذ اللحظة الأولى".
لا يقتصر الأمر على ذلك، إذ ينظر بعضهم إلى تلك المناسبة بوصفها أحد المظاهر الوطنية، وهو أقصى تعبير يذهب به اليمنيون نحو أغنيتهم، بكونها "ظاهرة وطنية" غير قابلة للمساس. هكذا، ولد "يوم الأغنية اليمنية" مجسّداً ما يحيط بواقع الغناء اليمني. ففي الداخل، يواجه الغناء حرباً شعواء لحظره وإخفائه من الفضاء العام. فيما يتعرض من الخارج لعمليات استيلاء، لتظهر أغاني في الخليج منحولة من الغناء اليمني، ومنسوبة إلى غير مصدرها. حتى إن تلفزيون قناة عدن المستقلة، التابع للمجلس الانتقالي الجنوبي، نقل فعاليات "مهرجان ليالي عدن الثاني"، ناسباً أغنيتين يمنيتين، كلاماً ولحناً، إلى غير صانعيها. على سبيل المثال، عند إذاعة فقرة أداء فنانة شابة لأغنية محمد سعد عبد الله "كلمة ولو جبر خاطر"، نسبت كلماتها إلى عبادي الجوهر، وهي، كلاماً ولحناً، لليمني محمد سعد. لاحقاً، اعتذر التلفزيون عن هذا الخطأ، مبرّراً إياه بأنّه "زلّة".