من السهل على المستمع العربي تورية خياراته الموسيقية، خصوصاً عندما تلتزم الطبائع العامة للذائقة المحلية، بمحددات فنية تفرضها السلطة الحاكمة وأدواتها الأمنية.
إشكالية لم تكن وليدة اليوم، أو حتى قبل قرن من الزمن. هي وليدة سياقات تاريخية تأثرت بصعود أنظمة سلطوية، أغرقت البلاد في أتون الاشتراكية وادعاء العلمانية. فأسقطت عن الشعوب ماضياً فخرياً، ورمته إلى ملهاة الهراوات الحديثة والمستحدثة، بعد انجلاء الاستعمار الغربي، منتصف القرن الماضي، ومن ثم حلول اللامركزية القومية التي كانت سائدة في تلك الفترة.
القالب الاجتماعي والسياسي لبعض البلدان العربية، جعل من عملية التذوق الموسيقي رهينةً لضوابط عديدة، ليس على الصعيد الاحترافي والتسويقي، إنما على الصعيد الموضوعي، بغرض إضفاء مزيد من السلطة والهالة الثقافية لمصلحة نوع محدد من التقليد الموسيقي، كأغاني التبجيل والمديح، اللتين صبغتا عصر ما بعد النكسة (1967). هكذا، خرجت أغانٍ وطنية، تؤدي دورها المثالي في تشويش إرادة الشعب بلسان أبواق السلطة، مؤذنة لتاريخ جديد كتبته أنظمة جديدة بالمطرقة والسندان، أبرزها نظام البعث في العراق وسورية. ونظام أنور السادات، ومن بعده حسني مبارك في مصر، ومعمر القذافي في ليبيا.
يدٌ تضبط أخلاق المجتمع وأهواءه. لم تكن إفرازات الثقافة والفن، تحت ظلال هذه اليد، إلا معايير تنتجها أدوات النظام الحاكم، بما يفسر أيديولوجية القطيع "المتوازن". بدوره، ينتج هذا القطيع – وفق نظام رأسمالي – فرضية "الوجه المزدوج" لمُنتَجٍ يُرْضي وعيًا جماهيريًا ساذجًا لا يشذ عن إرادة السلطة.
جاءت أولى محاولات التعبير عن حرية الرأي في الأغنية العربية، على لساني الراحلين الشيخ إمام وصديقه أحمد فؤاد نجم، فبرزت الأغنية السياسية لتنتقد السلطة وأداءها، بعد أن اتجهت الأخيرة نحو تكريس نظرية الاستثمار في الجهل. أصبحت السلطة تعي خطورة الكلمة وقدرتها على التأثير وحشد الجموع، ما عرّض كلا من إمام ونجم، في عهد السادات تحديدًا، للاعتقال والمراقبة والمساءلة الدائمة في كل عمل غنائي يماحك عمل السلطة.
هذا الوعي (العدوى) انتقل إلى كل من العراق وسورية؛ فأدركت السلطات، أنها بمجرد تسطيحها الذوق العام، ستحد من ذكاء شعوبها ووعيها، وبالتالي سيتحولون إلى قطيع تتحكم في خياراته وميوله الفنية والذوقية، تحسبًا من أي حس ثوري محتمل. هكذا، جُرِّدَ المستمع من خياراته الموسيقية، صار يستمع بصمت. يتلذذ بحرية مسروقةٍ في زوايا مظلمة بعيدة عن آذان المراقبين أو الواشين.
بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، تحوّرت إشكالية الاستماع إلى الأغاني السياسية والثورية. المستمع والمغني على خط واحد، فكلاهما ينطبق عليه صفة "إرهابي". وما حنجرة إبراهيم القاشوش (مطرب الثورة السورية) التي انتزعت على يد أفراد النظام السوري عام 2011، إلا إعادة تكرير لثقافة القمع، بحلة عصرية تجيز الدفاع عن "كبرياء" الدولة و"كرامتها".
لا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة إلى المصور المصري الشاب شادي حبش، الذي مات في سجن طرة العام الماضي، بعد عامين من الاعتقال على خلفية مشاركته في إعداد أغنية سياسية تسخر من سياسات الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، المالية والاقتصادية، مع المغني المصري المغترب رامي عصام.
وقد طاولت عمليات الاعتقال، إلى جانب حبش، كلا من مؤلف الأغنية جلال البحيري، ومصطفى جمال المسؤول عن صفحة عصام على فيسبوك، بعد أن أسندت إليهم تهم الانضمام لجماعات إرهابية، وإهانة المؤسسة العسكرية وازدراء الأديان.
تحت وطأة هذه الأحكام، لعنةٌ أصابت المستمع العربي، وأشعرته بالخذلان والخوف والقلق، رغم رهانات الحرية التي أوحت بها ثورات الربيع العربي. وكما يقول فيكتور هيغو: "تفصح الموسيقى عن تلك الأشياء التي لا نستطيع الحديث عنها ولا نقدر السكوت عليها"، ليصاب المستمع بحالة فصام ذوقي. تسبقه آثار رواسب تدجين محلي، قبل التهجير والنزوح.
في الخارج، يغدو المهاجرون واللاجئون أكثر حرية. وهو نوع آخر من الفصام. تسببت به أنظمة الحكم الفاسدة في بلادهم. لكن رهان الحريات هنا، مشروط ببنيان المجتمعات المضيفة، قبل الخوض في حيثياتٍ سلوكية ونفسية جعلت من "المستمع اللاجئ" إذا أمكن القول، حاملًا لقضية مكلومةٍ، لا يجد لها منبرًا سوى بيئة آمنة تضمن له سلامته وحريته.
شهدت طرقات أوروبا البعيدة، نماذج متنوعة تصدح أجواؤها بأغنيات ثورية تناهض حكام بلادهم وسياساتهم القمعية، وآثرت أن تكون طقسًا وتقليدًا في البيوت وخيام اللجوء وفي الساحات العامة، يتشاركونها مع الأقارب والأصدقاء والأجانب، على عكس بعض مناطق اللجوء المجاورة وبالأخص لبنان، الذي كان حاضنة للاجئين السوريين منذ بداية الثورة السورية. إذ إن تهمة الاستماع إلى أغانٍ ثورية تناهض النظام السوري وسلطته الحاكمة، لا تختلف معايير إدانتها وموجبات العقوبة عليها عن تلك التي تسري داخل سورية، على اعتبار أن سورية ولبنان بلدان متداخلان سياسيًا واجتماعيًا وتاريخيًا، ونظام الحريات فيهما منوط بتبادل أحادي بين الطوائف وداخل دائرتها، وما يشذ عن تلك الدائرة مرتبط بالعلاقة السياسية المتينة بين طائفة أو حزب وبين الأنظمة العربية المجاورة، كعلاقة حزب الله بنظام الأسد.
هذه الرابطة يفهمها اللاجئ السوري ويعرف ماهيتها وعواقب المساس بها، وبالتالي كان يشعر بعدوى الخناق تلاحقه وتلاحق ذوقه الموسيقي في سماع الأغنية السياسية المعارضة، الأمر الذي فرض عليه اختيار أمكنة مناسبة لممارسة أهوائه الموسيقية، فاستغل ثغرة المناطقية الطائفية في اختيار سكنه ليعبر عن حريته بشكل أفضل، مع الأخذ بالاعتبار الحيطة والحذر.
لم يكتف المهاجر أو اللاجئ العربي، بحمل همومه الشخصية والنفسية عندما وصل إلى أوروبا فحسب، بل صار تروبادورًا (مينيسَنجَر) جوالًا، يفتش عن بيئة تحتضن مواويله وأغنياته ليشعر، وفقًا للفلسفة الهيغيلية، بنوع من الانتصار الرمزي على واقع سياسي واجتماعي مزرٍ، في بلادٍ أغرقته بالقهر والقمع والاستبداد، وليفتح بابًا ثقافيًا ومعرفيًا على المجتمعات الغربية، لفهم الخلفية الاجتماعية والنفسية التي أتى منها. وإن لاحت مظاهر أخرى لممارسات موسيقية، تكشف عن أذواق أخرى بعيدة عن الصنف السياسي والثوري، فإنما هو دليل على مستوى الانسجام والأمان اللذين صار يتمتع بهما المغترب داخل الأراضي الأجنبية