في صباح يوم الثامن من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2000، حمل الطفل الفلسطيني فارس عودة حقيبته، واندفع باتجاه مغاير لطريق مدرسته. حثّ خطاه نحو مستوطنة ناتساريم، وبالتحديد معبر المنطار. في حقيبته، خبأ فارس ملابس المواجهات. خلع عن نفسه ملابس المدرسة النظيفة، واستبدلها بلباس المقاتل. حمل حجارته وقذفها بملء عزيمته على دبابة الميركافا التي صُمّمت لتتناسب مع وعورة أرض فلسطين والجولان المحتل.
عاش فارس طفولته المبكّرة في الانتفاضة الأولى. وعندما اشتد عوده استشهد، ولم يتجاوز عمره الرابعة عشرة في الانتفاضة الثانية. لا بدّ من أنه عرف بحادثة دهس شاحنة عسكرية إسرائيلية في مخيم جباليا لمركبة تقلّ عمالاً فلسطينيين عائدين من أماكن عملهم في الأراضي المحتلة إلى بيوتهم في قطاع غزة.
هذه القصة التي شكّلت لحظة تاريخية في مسيرة المقاومة الفلسطينية، فكان استشهاد أربعة عمال وجرح سبعة آخرين بمثابة فتيل مشتعل لقنبلة من الغضب الشعبي الذي أسفر عن الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، وقد بدأت من غزة وامتدت إلى الضفة الغربية.
وابل الحجارة الذي رشقه الفلسطينيون على جنود الاحتلال ودباباتهم، سلاح الانتفاضة القريب من متناول اليد، جعل بإمكان مختلف فئات الشعب الفلسطيني الانخراط في فعل المقاومة، بمن فيهم الأطفال، فأصبح مشهد اليد الصغيرة القابضة على حجر والوجه الطفولي الغاضب، واحدة من سمات هذا الحدث الجمعي الذي لم يحتكر النضال على من يحملون السلاح.
انتفض الفلسطينيون جميعاً كرجل واحد في وجه الجيش الإسرائيلي المدجج بأدوات القتل الثقيلة، فكانت "انتفاضة" بما تحمله الكلمة من معنى، فعلاً يحمل في أعماقه تكثيفاً ثورياً.
في الأيام الأولى لانتفاضة الحجارة، أغلقت سلطات الاحتلال المدارس في قطاع غزة والضفة الغربية، إذ تخوّفت من الطلبة ودورهم في الحركة الثورية. إسرائيل تدرك أن شجاعة الطفل الفلسطيني الذي تغذى على قصص آبائه وأجداده، لا تقل عن باقي الفلسطينيين.
في الحقيقة، كانت المخاوف الإسرائيلية في مكانها، إذ نزل الأطفال إلى الشوارع مطلقين بعزم الرجال أحجاراً من أرض بلادهم على رأس المحتل، في مشهد تاريخي يقارب في حضوره القصص الشعبية. هؤلاء أطفال الانتفاضة الذين تغنى بهم نزار قباني في قصيدته "أطفال الحجارة"؛ إذ قال: "بهروا الدنيا وما في يدهم إلا حجارة". وفي الضفة المقابلة، وجّه الجنود الإسرائيليون بنادقهم من دون هوادة نحو رؤوس الأطفال الفلسطينيين.
عندما تسنى للمخرج الفلسطيني ميشيل خليفي تصوير أول فيلم روائي في غزة، "حكاية الجواهر الثلاث" (1995)، اختار بطل فيلمه من شريحة أطفال الانتفاضة. إنه يوسف ذو الـ12 ربيعاً، قضاها بأكملها أمام وجوه الجنود الإسرائيليين المتوارين وراء خوذة. يوسف يعيش في مخيم في قطاع غزة. وهو كسائر أبناء جيل الانتفاضة، ممن لا يملكون فرصة أن ينعموا بطفولتهم، فيتكئون على أرضية خصبة من الذاكرة الجمعية.
يعجّ الأرشيف الفلسطيني المصور بمقاطع فيديو لأطفال يتحدثون ببلاغة القادة عن الوطن والكفاح. فمقابل الموت، يكبر الطفل الفلسطيني قبل أوانه، ويدرك مفاهيم الوطن والاحتلال والمقاومة. ولكونه نشأ تحت وطأة الاحتلال وفي كنف المقاومة، تعتبر القضية الفلسطينية مرجعيةً لوعيه السياسي المبكّر.
فعلى سبيل المثال، لا يبدو غريباً أن يجري طفل من غزة تغطية صحافية لمجريات العدوان الإسرائيلي الحالي الذي تلا عملية طوفان الأقصى السابع من أكتوبر الماضي. من جهة أخرى، غزت مواقع التواصل الاجتماعي صور لأطفال غزة، شهداء، أشلاء، جرحى، وناجين. وأصبحت، لكونها محركاً للشعور العالمي، ثيمة حاضرة في المشهد الفلسطيني، ولا سيما في الحرب الأخيرة. وفي مقابل الانتشار الهائل لصور مأساوية لأطفال غزة، جرى تداول صور ومقاطع فيديو مدعمة بالذكاء الاصطناعي، تكثف المأساة والآلام التي تعتصر غزة. أغلب هذه الصور تناولت الأطفال. ولكن محاكاة هذه الصور للحقيقة، حملت في طياتها تزييفاً للواقع المأساوي، وأوحت بأن الحرب على غزة ما هي إلا رواية مختلقة ومدعمة بتقنيات الذكاء الاصطناعي.
يرفض خليفي عبارة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". ويرى في الخيال طريقاً نحو التحرير، والخيال الذي يشغل يوسف، هو حلم طفل قابع في وطنٍ محتلّ، يرنو بما يشبه أحلام اليقظة إلى بلادٍ تتسع له، ويغالي في الحلم حتى يقارب ما كتبه محمود درويش في جداريته: "أنا أيضاً أطير، فكل حيٍّ طائر". يوسف الذي يفهم لغة الطيور، تتحد روحه بروح طائره، فيخرج من صندوق البرتقال عند سماعه صوت شحروره، ويركض وكأنه على وشك أن يحلّق حتى يقتل برصاص الجنود الإسرائيليين الذي لم يصب جناحي خيال يوسف فحسب، بل حياته بأسرها.
لكن خليفي هنا يترك مجالاً مفتوحاً، فيركض يوسف كأن شرّاً لم يمسسه، ويكمل لحاقه بالعصفور، وكأنه بهذه الاستعارة، يُبقي عليه باعتباره رمزاً لا يموت. يتطابق المعنى الرمزي للطيور الذي ذهب خليفي لاستخدامه في فيلمه مع الواقع، إذ أغرقت مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو لأطفال فلسطينيين يغادرون بيوتهم المهددة بالقصف برفقة طيورهم أو حيواناتهم الأليفة. في هذه الصور إحالة واقعية إلى شخصية يوسف. فكما يُعرف الشيء من نقيضه، يدرك الطفل الفلسطيني، الذي زجته الأقدار في بلادٍ نازفة لا تتلاءم ومفردات الطفولة في الأوطان المستقرة، معنى الحياة.
شخصية يوسف التي استقاها خليفي من شذرات متنوعة لصور الطفولة الفلسطينية، ما هي إلا قصة من فيض القصص التي تنتهي بمقتل الطفل الفلسطيني، واغتيال أحلامه وطمس أفقه. فغداة العدوان الحالي، استُشهد أكثر من عشرة آلاف طفل فلسطيني في غزة، وقدر المركز الأورومتوسطي إجمالي عدد الأطفال ضحايا الهجمات التي ينفذها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة بعد "طوفان الأقصى" بنحو 700 ألف طفل، ما بين شهيد ومصاب ومشرد من دون مأوى. كذلك تعرضت المدارس في القطاع المحاصر للقصف، وأصبح عدد منها ملجأً لمن فقدوا بيوتهم.
الحدث الأخير ليس بالظرف الطارئ؛ فهذا قدر من يولد في غزة، يفتح عينيه على حياة قد تتبدّل في بضع ثوانٍ، يقبل على الدنيا وحياته على المحكّ، وما إن يطلق صرخته الأولى حتى يلقى نفسه في خضمّ معركة وجود، معرّضاً فيها لخسارة الأم أو الأب أو هدم بيته ومدرسته وتشريده. تُبدع إسرائيل سيناريوهات جديدة لإبادة الأطفال. فعدى عن رصاص البنادق والدبابات والسحل بالجرافات، مارست السلطات الإسرائيلية أساليب شتى لقتل الطفل الفلسطيني بعد عملية "طوفان الأقصى"، فها هي الطفلة غنى دحداح (14 عاماً) تنازع الموت لثلاثة أيام بجسدها الصغير، حتى أذبلها الجوع وتهاوت في مركز إيواء داخل مدرسة طيبة الحكومية في خانيونس، ودفنت في باحة المدرسة، وما هي إلا واحدة من شهداء كثيرين قضوا بفعل سعار الجوع، أو بعد أن هبطت أسقف منازلهم على رؤوسهم.
قد يتساءل الطفل الفلسطيني عن معنى الأرض مع عمليات تفكيره الأولى. ولهذا، ذهب خليفي إلى عرض علاقة يوسف بالأرض. فحين يقرر عبور الحدود التي رسمت مصيره المحتوم، يختبئ في سحارة برتقال. والبرتقال، أو الذهب الأصفر، أحد المكونات التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأرض فلسطين، إذ تستحضر هذه الفاكهة المقدسة الحديث عن المقاومة؛ فلطالما كانت المخابرات الإسرائيلية تركز اهتمامها على تجنيد أصحاب البيارات الزراعية، خصوصاً بيارات الحمضيات التي اشتهرت رفح بزراعتها، وذلك لكونها ملاذاً آمناً للفدائيين الفلسطينيين المطاردين، وبمثابة قواعد سرية لهم، حسب الباحث عبد الله عياش.
وهذا ما يتطرق الفيلم إليه في تصوير أخ يوسف ورفاقه الفدائيين المختبئين في حقل البرتقال. يجد خليفي في جدلية الواقع والخيال منبتاً لتوازن الطفل، ولا سيما ذاك القابع في الحرب، فهو نفسه ولد في الناصرة بعد النكبة بعامين، جُبلت ذاكرته كما أطفال فلسطين بمشاهد دموية لجنود الاحتلال ودباباتهم، ولم ينسَ ذكريات الحصار والتضييق، وعن طفولته يقول: "في طفولتي كانت الناصرة مخيماً، كنا نبحث عن شبابيك للنظر إلى العالم الخارجي". وربما دفعه الطفل الناصري في داخله إلى إنجاز فيلم "حكاية الجواهر الثلاث". وهذا ما صرح به عندما قال إنه يجد في تصوير الفيلم جزءاً من التزامه وتضامنه مع غزة المهمشة، التي لها الحق في أن تدخل في العالم الحديث وتحافظ على كرامتها الإنسانية، ومن خلال الطفل يوسف وصديقته عايدة.
أراد أن يدفع المجتمع إلى الاعتراف بالفرد، بكيانه، على حد قوله. ويتساءل في سياق آخر: "كم زمناً متراكماً نعيشه في اللحظة نفسها؟ كيف نتعامل مع حاضر يصبح في اللحظة نفسها ماضياً؟"، ولكن المسألة تتعقد حين يمتد الماضي نحو حاضرنا، فالحرب في غزة لم تتوقف، بل تستعر ثم تخبو قليلاً لتعود وتشتد من جديد، ولا يزال الطفل الفلسطيني يولد مناضلاً للحصول على حقه في الطفولة، حتى يكبر ويختار شكلاً آخر للنضال، بينما ينخرط أجيال الفلسطينيين، جيلاً بعد جيل، في مقاومة لا تنطفئ.