في تجربته الأولى، "الأب" (2020)، نجح الروائي وكاتب المسرح الفرنسي فلوريان زيلّر (1979)، باقتدار شديد، في ترسيخ اسمه سينمائياً. أحد أهم كتّاب المسرح في العالم في العقدين الفائتين، نال جوائز كثيرة، وتُرجمت أعماله إلى لغاتٍ عدّة. لكنْ، يبدو أنّه غير مُكتفٍ بالكتابة الأدبية.
اللافت للانتباه أنّ كاتباً له ثقله الأدبي لم يكتب سيناريو وحوار فيلمه الأول، إذْ شارك السيناريست المخضرم كريستوفر هامبتون في كتابة سيناريو "الأب"، المقتبس من مسرحية له بالعنوان نفسه، منشورة بالفرنسية عام 2012، وفائزة بـ"جائزة موليير المسرحية" المرموقة في فرنسا عام 2014، إلى جوائز أخرى.
في إطارها العام، تتناول قصّة "الأب" موضوعاً مطروقاً في السينما: قضية الآباء كبار السنّ، وصعوبة التعامل معهم، خاصة عندما يحتاجون إلى رعاية واهتمام، بسبب مرضٍ أو شيخوخة؛ وعندما يصيرون عبئاً على أبنائهم. قصّة "الأب" تتناول تحديداً مرض الخرف أو ألزهايمر، الذي يزحف تدريجياً على عقل أنتوني (أنتوني هوبكنز) الثمانيني، ويسيطر كلّياً عليه. في "الأب"، البطل ليس امرأة، إذْ إنّ "أبطال" غالبية الأفلام التي تناولت الخَرَف نساءٌ عادةً، ومواضيعها متمحورة أساساً حولهنّ.
مثلاً، "إيريس: مذكّرات إيريس مردوخ" (2001)، للبريطاني ريتشارد أيِر: قصّة حبّ رومانسية بين الروائية المشهورة وزوجها، منذ سنواتهما الدراسية الأولى حتى إصابتها بالمرض. الفيلم مأخوذ عن كتابي "إيريس: مذكّرات" و"مرثاة لإيريس" لجون بايلي، زوج الكاتبة. ورغم أنّه من بطولة كايت وينسلت (إيريس الشابة) وجودي دانش (إيريس العجوز)، ورغم فوزه وترشّحه لأكثر من جائزة، إلا أنّ جيم برودبنت هو من فاز بـ"أوسكار" أفضل ممثل مساعد. هناك أيضاً "بعيداً عنها" (2007)، للكندية سارة بولي، الذي ترشّحت جولي كريستي لـ"أوسكار" و"بافتا" أفضل ممثلة، لأدائها شخصية فيونا، وفازت بـ"غولدن غلوب". الفيلم مأخوذ عن قصّة قصيرة لأليس مونرو، "لا تزال أليس" (2015)، للأميركي ريتشارد غلاتزر والبريطاني واش ويستمورلاند، مع جوليان مور الفائزة بجوائز "أوسكار" و"بافتا" و"غولدن غلوب" عن دور أليس. الفيلم مأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه، للأميركية ليزا جينوفا.
بالإضافة إلى "المرأة الحديدية" (2011)، للبريطانية فيليدا لويد (سيناريو آبي مورغان)، مع ميريل ستريب في دور مارغريت تاتشر، فازت عنه بـ"أوسكار" و"بافتا" و"غولدن غلوب" أفضل ممثلة. و"سبل غير مطروقة" (2020)، للبريطانية سالي بوتر، مع خافيير بارديم وسلمى حايك، غير مأخوذ عن عمل أدبي، كفيلم لويد، أي أنّهما كُتبا مباشرة للسينما: يتناول حياة ليو ومشكلته مع بدايات إصابته بالمرض (ألزهايمر)، عبر عينيّ ابنته، الشاهدة على تدهور حالته.
يُلاحظ اهتمام المخرجين البريطانيين بتقديم هذا المرض سينمائياً أكثر من غيرهم، رغم أنّ نسبة المرض، الذي يزداد انتشاره مؤخّراً، تكاد لا تُذكر في بريطانيا، مقابل مدى انتشاره في دول أخرى، أبرزها اسكندينافيا وأميركا وكندا. الأفلام مأخوذة عادة عن نصوص أدبية، ومؤدّو الأدوار الأولى فازوا بـ"أوسكار" أفضل تمثيل وبجوائز مرموقة عدّة. يؤخذ هذا بالاعتبار، بشدّة، إنْ تمّ التكهّن باسم الفائز بـ"أوسكار" أفضل تمثيل، في نسخة العام المقبل، إذْ يُتوقّع فوز أنتوني هوبكنز بها، فأداؤه يستحق أكثر من جائزة. في "الأب"، تجلّت عبقريته الأدائية، وسطعت خبرة السنين، فسحرت المُشاهد، ليس بنبرة صوته أو تعبير وجهه فقط، بل بكلّ ما لديه من مَلكةٍ وظّفها خير توظيف لصالح الشخصية: يضحك ويسخر ويحزن ويغضب ويخاف، ويبكي كالأطفال، ويرتعب، ويرقص رقصاً إيقاعياً أيضاً.
أداء غير سهل أبداً. استغرق أنتوني هوبكنز فترة طويلة للموافقة على تأدية الدور. فلوريان زيلر محقٌّ تماماً في إصراره على أنْ يؤدّي هوبكنز، لا أحد غيره، شخصية أنتوني. ورغم الأداء الفذّ للممثل، الذي يصعب عليه هو نفسه تكراره في أدوارٍ أخرى لاحقة، برز إلى جانبه أداء مُذهل وهادئ وبسيط لأوليفيا كولمان في دور ابنته آن. والممثلة فائزة بجائزتي "أوسكار" و"غولدن غلوب" أفضل ممثلة، عن دورها (الملكة آن) في "المُفضّلة" (2019) لليوناني يورغوس لانتيموس.
في "الأب"، الفائز بجائزة أفضل فيلم في الدورة الـ68 (18 ـ 26 سبتمبر/ أيلول 2020) لـ"مهرجان سان سيباستيان السينمائي"، لا تغادر الكاميرا جدران شقّة أنتوني سوى مرة واحدة، مع آن في سيارة أجرة، قبيل نهاية الفيلم. هناك نظرات عابرة لأنتوني أو آن من النافذة إلى الشارع أو الجيران، في مشهدين أو ثلاثة. طول الوقت، ينحصر الأداء في نحو 90 دقيقة (مدّة الفيلم 105 دقائق) داخل الجدران الأربعة، مع 4 أو 5 شخصيات، أغلبها ثانوي. حوار مُكثّف وغير منقطع، إلا عندما يستمع أنتوني إلى الموسيقى. رغم ذلك، لا ملل إطلاقاً، بل إثارة وتشويق واستمتاع، وقبل هذا، هناك السينما، الحاضرة كلّياً. الفيلم غير مُمسرح، ولا حوار أو أداء أو إيقاع أو مونتاج مسرحي نهائياً.
صحيحٌ أنّ عوامل نجاح "الأب" تُعزى إلى جوانب كثيرة، كالسيناريو المحترف، والأداء العبقري، ووحدة المكان، والتصوير في الاستديو. لكنّ القبضة المُحكمة على العناصر كلها، وخلق توليفة رائعة بينها، وجعلها تعمل معاً بانسجامٍ وانسيابية وفنية، تُعزى إلى مُخرج متمكّن من أدواته، وموهوب بشدّة، ويعرف جيداً ما يُريد تقديمه. تجلّى هذا في نقطة فارقة، تُحسب لـ"الأب"، مقارنة بغيره من أفلامٍ تناولت الموضوع نفسه، إذ ابتعد السيناريست والمخرج، إلى أقصى حدّ، عن العاطفة والميلودراما، وعن شحنات انفعالية يُثيرها موضوع كهذا، ويُبرزها الأداء التمثيلي. لا يعني هذا أنّ "الأب" يتّسم بالجمود أو البرود، ويخلو من العاطفة والشحنات الانفعالية والمواقف المُؤثّرة والقاتمة. فبراعته تجلّت في وضع المُشاهدين داخل، وليس خارج، الحالة الذهنية والعقلية للشخصية، لا خارجها.
مع لقطات الختام، يُدرك المُشاهد أنّه كان في عقل أنتوني. يعيش معه عن كثب تدهور حالته الذهنية، بدءاً من مُصارحة آن بتركها إياه والانتقال إلى باريس، ثم نفي هذا، إلى أنْ يتأكّد الأمر مع مشاهد الختام.
رغم بنيته الجسمانية السليمة، يتلاشى التركيز الذهني لأنتوني تدريجياً، وتضعف قدرته على تذكّر الأسماء، وترتيب المَشَاهد، التي يتّضح أنّها محض نسيج متضارب من ذكريات مُفكّكة أو مُركّبة أو متداخلة، أمام أعين المُشاهدين وبمشاركتهم. ففي "الأب"، يعيش المُشاهد الحالة، كأنّه أنتوني، ولا يكون متفرّجاً خارجياً وسلبياً، يتلقّى المادة الفيلمية، ويتفاعل معها بمشاعره، ثم ينساها.