لا يمكن اعتبار "الآباء العجائز" (ترجمة عربية للعنوان الإنكليزي: Old Dads) فيلماً درامياً، بالمعنى المهنيّ المتداول للمفردة، لأنّه فيلمٌ حواري بامتياز، فالحدث حوار بحدّ ذاته، رغم خضوع خاتمته لشروط الدراما الهوليوودية التصالحية، مُحوّرةً مبناه إلى سوء تفاهم أسري ـ زوجي، يُحَلّ بالعناق والقُبل.
هذه الحوارية ـ الفيلم (2023، "نتفليكس")، لبِل بُرّ إخراجاً وتمثيلاً، تذهب بعيداً في نزع صفة "التصوّر" عن اللغة، لتصبح أصواتاً معنيّة بالتفاهم. فلا تصوّرات ذاتية أو مجتمعية تبقى عند المتحدث أو المتلقّي، بل إقرارات حقوقية متراكبة ومتوالية، تنسخ الكلمات المعبّرة عن العيش الاجتماعي الحالي، وتبدّلها بكلمات تعبّر عن ثقافة جديدة، بلا مرتسمات تصوّرية في المتكلّم أو المستمع. اللغة، هنا، تقوم مقام الآلة، وحتى رأس المال، في الممارسة التنفيذية للمديرين الإداريين، أو لأصحاب القرار، أي قرار، متحوّلة الى حالة قمع وتسلّط، يستطيع المستمع فهمها، لكنّه لا يستطيع تصوّرها.
على هذا، قامت اللغة في "الآباء العجائز" مقام الحدث. فجاك (بُرّ نفسه) لا يستطيع التخلّص ولا التملّص من "لزاجة" مديرة مدرسة ابنه الصغير، وهي تلفت نظره إلى تأخّره بالوصول دقيقتين لمرافقته إلى المنزل، فيتحوّل الحوار نفسه الى حدث. يقول لها إنّه لم يستطع العثور على مكان لركن السيارة، فتجيبه بأنّ هذا تبريرٌ، فيقول إنّ هذا ما حصل، وليس تبريراً، فتقوده إلى النظام الداخلي للمدرسة، وتسأله إن كان قرأه، فيجيبها بـ"نعم"، لتُحرجه وهي تلفت نظره مجدّداً إلى أنّه لم يقرأ باهتمامٍ كاف، ما يشير إلى عدم أهليّته أباً. عندها، يشتمها بتهكّم، واصفاً إياها بأنّها قصيرة وسمينة، فتنفجر بوجهه مشكلة كبيرة، ذات ذيول متشعّبة، لأنّ المديرة مسؤولة عن إدخال ابنه إلى المدرسة التالية، بعد إنهاء الدراسة في مدرستها.
لم يُقدّر جاك عواقب حواره الاجتماعي هذا، ليقع في مشكلة تحديث اللغة الاجتماعية ذات المحتوى الحقوقي، الذي لا يقبل التسامح، والذي بدأ بتغيير الواقع لمصلحة أصحاب القرارات. لكنّ التغيير نفسه جراحة تربوية في عالمي الأخلاق والثقافة، اللتين يُفترض في إحداهما أنْ تتوالد من الأخرى، من دون الأخذ بعين الاعتبار تلك الآلام المنطقية، التي سبّبتها تلك الجراحة في عالم الحقوق، حيث يتمّ التركيز على حقوق مُكتشفة في مخابئ الحقوق الموازية، كأنْ يعتبر رجل بدين أنّ كلام جاك للمديرة (إنّها بدينة) إهانةٌ شخصية له، وإذلالٌ لأسرته، ما يؤثّر بشكل تدميري على الكيان الاجتماعي، فيتحوّل الاعتذار من المديرة إلى اعتذار من المجتمع برمّته، الذي ربما يقبل الاعتذار، أو لا.
ربما كان استخدام كلمة تربية، في هذا المقام، تلطيفاً لحالة من الترويض القسري الهادئ والمتوالي، بمتابعة حثيثة لا تنتهي، بحيث لا يتبقّى للإنسان إلا الرضوخ والنجاة بما بقي من حياته قبل تدميرها عن بكرة أبيها. هذا حصل في الفيلم، إذْ شارف جاك وصديقاه (كنماذج اجتماعية) على الدخول في حالة من الفشل الإنساني، وخسارة حياتهم الزوجية ـ الاجتماعية، لولا الحلّ الهوليوودي التصالحي المُشار إليه أعلاه، فهذا حلّ واهٍ لا مكان له إلا في مساحات الخضوع والتسليم، وصوغ معانٍ تصوّرية مهدّئة للعقل والأعصاب، لتعود حياة الجميع إلى حالة نفاق، تفصم عرى العلاقة بين الحقّ والتصويب المفروض فرضاً على السلوكات الحياتية، وأهمها الحقّ في الرأي والتعبير.
ربما كان لـ"الآباء العجائز" أنْ يعبّر عن متّحدات اجتماعية منظّمة ومنضبطة، يبدو أنّنا مضطرّون إلى تسميتها بـ"الغرب". لكنْ، في الواقع العربي، تشابهات كثيرة مع محتوى هذا الفيلم، من ناحية قسر البنية الثقافية على تبني سلوكات أخلاقية، والقسر مبنيّ جملة وتفصيلاً على مصلحة أصحاب القرارات، الذين يدفعون الثمن نفسه عن أقوال يجدها أصحاب قرارات آخرون أنّها مدمّرة للصواب المستقبليّ.
ربما هنا، مع بعض الطرافة في مقاربة الفيلم، يُذكَّر بسلوكات كثيرة في البلدان العربية، التي تتبنّاها غالباً المنظّمات غير الحكومية، بحيث تصبح كيانات فيها أصحاب قرار، يمكنهم شنّ هجمات على أفراد "ربما" يقعون في "أخطاء" سلوكية، ناتجة عن تربيتهم الاجتماعية، أو عن فسادهم النفسي (ليس عطبهم أو مرضهم). لا أقصد هنا الحداثوييّن والحداثيّات، بل أيضاً المحافظين والمحافظات، فالجميع يتمتّعون بوسائل ردع سلوكات الأفراد وتصويبها، من الذين يحاولون عدم الانضمام إلى قطيع، حتى لو كان مستقبلياً.
لا تبدو نهاية "الآباء العجائز" سعيدة، رغم التصالح الهشّ الذي يُبيح تحمّل الأذى، في مقابل وعدٍ مستقبلي غامض عن السعادة. فالعمليات التجديدية التي تقوم بها دراما الحوار، استثمارات مستقبلية لها علاقة وطيدة مع الصناعة والتجارة والإعلان، إذ تبدو تصويباً لمنابع المال، كي يصبّ في خزينة ملتهمة، تتعامل بحياد استثماري بارد وقاسٍ مع كلّ المبادرات الخيرية، التي ينطلق منها الأفراد، لعلّ فيها بعض المصالح، فتخترع لها قيماً أخلاقية مستحدثة، تفوح منها الروائح الصناعية.
من جهة أخرى، يبدو الفيلم أنّه يطرح سؤالاً سينمائياً: هل يستطيع "الآباء العجائز"، كما الحياة، توليد احتدام حياتي، بناء على لغة الحوار؟ الإجابة توحي بنعم، لكنّها نعم مبتورة وشاقّة، وغير مضمونة النتائج.