اتجاهات الموسيقى... كما لو أنّها قفزة في فراغ الآلة

06 يوليو 2023
ستعمل الخوارزميات على تكريس جمهور مسلوب الإرادة (ريتشارد بيكر/Getty)
+ الخط -

لم تعد صناعة الموسيقى تخضع لتلك القواعد التقليدية، خصوصاً مع هيمنة منصات البث الرقمية. بطبيعة الحال، ستؤثر هذه الأخيرة على الاتجاهات الموسيقية التي ستسيطر على المشهد خلال الفترة المقبلة. نتساءل: كيف سيكون هذا المشهد؟ والإجابة عن ذلك، ليست قفزة في الفراغ من خلال بناء فرضيات أو نبوءات، إنما لدينا ما نستخلصه من الواقع الحالي، لمساعدتنا في تحديد ما تخبئه لنا الموسيقى في المستقبل.

تغير المشهد على مدى سنوات، من أجل الحصول على الموسيقى، فبدلاً من الذهاب إلى متاجر بيع الأسطوانات، أصبحت الموسيقى سائلة في الإنترنت، ومن أي مكان في العالم يمكن الاستماع لما نريده.
وفقاً للمعطيات الحالية، ستظل منصات، مثل "يوتيوب" و"سبوتيفاي" و"آبل ميوزك"، المصدر الرئيسي للحصول على الموسيقى، خصوصاً أنه بعدما أوشكت القرصنة الإلكترونية على تدمير هذه الصناعة شكلت تلك المنصات منقذاً لها بعد سنوات من الركود مطلع الألفية.

وبطبيعة الحال، تعيش الموسيقى عصر ثورة البث كظاهرة جديدة. لكنها تعزز لدى الجمهور طبعاً متجذراً فيه، يتعلق بكسله؛ إذ إنه ينزع إلى الحصول على ما يريده بسهولة، من دون عناء البحث. ولدى منصات البث حزمة خوارزميات توفر للجمهور قوائم من المسارات المتتالية. وتعتمد على خاصتين: قراءة توجه كل مستخدم على حدة، والتوجهات العامة. في هذا السياق، تلعب منصة تيك توك دوراً حيوياً في انتشار الموسيقى، عبر فيديوهات قصيرة لا تتجاوز الدقيقة. وكان لـ"تيك توك" مساهمة فعالة في انتشار بعض الأغاني في منصات البث الأخرى، مع أنها لم تحظ فيها بنفس القدر من الاهتمام عند صدورها.

ومع تطور الذكاء الاصطناعي، ستعمل تلك الخوارزميات بدقة أكبر، إذ ستكرّس جمهوراً مسلوب الإرادة، يمكن برمجته آلياً عن بُعد، وتحركه نشوة الرائج (trend)، كما أن وسائل التواصل الاجتماعي، تتيح لأفراد عاديين أن يكونوا مؤثرين. ومن شأن ذلك أن يكون له دور حاسم وخطير في مستقبل الموسيقى. ومن المتوقع أن يشهد العالم ثورة في برمجة التطبيقات، فتعزز تلك الخصائص. هذا بخلاف ما يمكن أن تساهم فيه وسائل التواصل في خلق علاقة مباشرة بين الجمهور ومنتجي الموسيقى والفنانين، أي أن تصبح الموسيقى أكثر اجتماعية.

وهذا يعيدنا إلى آلية عمل منصات الإنترنت التي تقترح على الجمهور قوائم بحسب التوجهات الخاصة والعامة. فإنها تتخذ مساراً عكسياً لتقترح على صانعي الموسيقى أنماطاً لحنية، تحدد ميول الجمهور في فترة معينة، ما يجعل الجمهور مشاركاً في جزء كبير من اقتراح الموضات الموسيقية. ومن شأن ذلك أخلق واحدة من أكبر إشكاليات الموسيقى في المستقبل. وبحسب التوجهات التي يقترحها الذكاء الاصطناعي، ستقتصر الألحان على إعادة إنتاج نفسها، أي أنه من المتوقع أن تصبح الألحان الجديدة عملية إعادة مستمرة لأعمال سابقة، وإعادة ترقيعها.

من المعروف أن موسيقى البوب تتيح بدرجة واسعة استعارة جُمل أو ثيمات محددة من ألحان موجودة أصلاً. وبالعودة إلى ملامح عصرنا العامة، فإن الفنون تعيش مرحلة موت التيارات منذ تسعينيات القرن الماضي. وليست الموسيقى استثناء، فلا نرى أساليب مستقلة، بل شكلاً من التطفل على ما سبق وابتكر من أساليب. ويقترح علينا البوب عملية واسعة من دمج الأشكال الموسيقية، ومجاورة أساليب مختلفة. لكن وفقاً لما سبق وأشرنا إليه، فالموسيقى في طريقها من مرحلة موت الأساليب إلى مرحلة موت اللحن.

في الآونة الأخيرة، نلاحظ كثيراً من الإصدارات العالمية تعود إلى موسيقى السبعينيات. على سبيل المثال، الفانك والديسكو والسينث. هذا الاتجاه أيضاً يتخذ منحى اشتقاقياً عبر أساليب متطورة من تلك الأنماط الموسيقية، لدمجها بموسيقى إلكترونية وأنماط أخرى. إذن، تبدو كما لو أنها عملية خاضعة لتعديلات مستمرة.

وهذا تؤكده قائمة الأكثر رواجاً على "سبوتيفاي"، فهناك السينث بوب والنيو فانك وإليكتريك ديسكو. كلها اتجاهات انتشرت لدى الفنانين منذ أواخر العقد الفائت، ومن الممكن أن يستمر العمل بنفس الوتيرة بضع سنوات. يمكننا القول إن تلك الأساليب المزدهرة لن تضمحل، إنما ستخفت لتحل مكانها أنماط مختلفة. لكن أيضاً هناك توجه تشهده الموسيقى على صلة بالريمسكات؛ إذ يعيد كثير من الفنانين العالميين إصدار أعمالهم الأصلية بتكرارات متسارعة.

العام الماضي، تصدر فنانون قوائم مجلة بيلبورد، مثل راي وستيف لانسي، عبر إعادة إصدار أعمالهم الأصلية بأسلوب الريمسكات. أيضاً كثير من نجوم البوب العربي يعيدون إصدار أعمالهم الأصلية بهذا الأسلوب. بنظر بعضهم، تمثل الريمكسات بنمطها المتسارع والصاخب مرآة لعصر أكثر تسارعاً. وهناك مقولة شائعة بأن الريمسكات المتسارعة موجودة لتبقى. ومطلع العام، كانت أغنية ليدي غاغا، Blood Mary، في أعلى قوائم الأكثر رواجاً على "تيك توك"، بفضل الريمكس، لتتفوق على الإصدار الأصلي للأغنية (2011).

أصبحت أيضاً الموسيقى الإلكترونية، باشتقاقاتها الواسعة، من أهم الأنماط السائدة في صناعة الموسيقى. ومن المتوقع أن تستمر بنفس الزخم خلال السنوات المقبلة، مع زيادة اشتقاقاتها. ولا يمكن النظر إليها بوصفها تجسيداً صوتياً للتطورات التقنية، إنما كذلك هي تتماهى مع التوجه الموسيقي العام؛ أي ما سبق وأشرنا له بموت اللحن.

على أن تلك السمة المشحونة بطابع العصر المتسارع، التي تضج موسيقياً بمؤثرات إلكترونية أو ريمسكات، ستفتح باباً للحنين، يتعلق بالأصالة. ولتلك الكلمة هيمنة ثقافية، تسمح للحنين بالعودة بالموسيقيين والجمهور إلى طبيعة الألحان الأولى.

من جهة أخرى، يمكن أن نشهد خلال عقدين أو أكثر ثورة في التطبيقات، إذ تسمح قدراتها الهائلة على إنتاج أعمال غنائية وموسيقية بنفس الإمكانيات التي تسجلها أجهزة الاستديو، ما يعني أن التكنولوجيا ستبيح لأي شخص لديه الرغبة في إنتاج موسيقاه الخاصة على فعل ذلك. وفي نفس الوقت، يمكن للوسائط الاجتماعية مساعدته في الوصول إلى الجمهور. ومن المؤكد أن تحقيق النجاح لن يكون متاحاً لكل من يقدم نفسه، لكن ليس بالضرورة أن من ينجح هو الجيد.

المساهمون