مسألتان اثنتان يُثيرهما فيلمٌ دنماركي، مُشارك في المسابقة الرسمية للدورة 74 (15 ـ 25 فبراير/شباط 2024) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)": كيفية اختيار أفلامٍ للمسابقة الأساسية؛ وأي عنوان يُفترض بناقد/ناقدة عربيّ/عربية اعتماده: الأصل، أم الإنكليزي الدولي؟
غوستاف مولر مخرج دنماركي، مولودٌ في "غيتيبوري" السويدية عام 1988. له فيلمٌ روائيّ أول (2018) بعنوان "المذنب"، (ترجمة حرفية عربية للأصل: Den Skyldige، تماماً كالعنوان الإنكليزي الدولي أيضاً The Guilty). للروائي الثاني عنوان دنماركي: Vogter، و"وصي" ترجمة حرفية عربية له، بينما العنوان الإنكليزي الدولي مختلفٌ تماماً: Sons، أي "أبناء"، ومشاهدته في "برليناله" تُتيح ترجمة أخرى: "ابنان".
هذه مشكلة، مُكرَّرٌ تناولها وإنْ قليلاً: الإعلان عن الأفلام المختارة في مسابقة رسمية، أو برامج وأقسام أخرى، في مهرجانات دولية، يضع عاملاً ـ عاملة في النقد والصحافة السينمائيين العربيين، مهتمّين ومعنيّين ومتورّطين إيجابياً بهذه المهنة، في حيرةٍ: كيف يُترجَم عنوان فيلمٍ غير فرنسي وغير أميركي ـ إنكليزي، فهاتان اللغتان أكثر انتشاراً في العالم العربي؟ أيتركان العنوان بلغته الأصلية، ريثما يتسنّى لهما مشاهدة الفيلم، أمْ يعتمدان ترجمةً حرفية، للأصل أو للعنوان الدولي؟ والعنوان نفسه، إنْ يكن أصلاً أو دولياً، لن تكون ترجمته العربية متوافقة ونصّه السينمائي دائماً، فلكلّ مفردةٍ تفسيرات عدّة، والفيلم يريد أحد هذه التفسيرات في نصّه. هذا ينطبق على العنوانين الأصليين، الفرنسي والإنكليزي، أيضاً.
مُشاهَدة الروائي الثاني لمولر كفيلةٌ بتأكيد الاختيار: "ابنان". فهناك ابنٌ مقتولٌ في سجنٍ، يوضع فيه لجُرمٍ عادي؛ وهناك ابنٌ آخر يقتل هذا الابن في سجنه، لأنّه (الآخر) غاضبٌ ومتوتّر وعنيف، أساساً. النواة الرئيسية معقودةٌ على غضبٍ آخر، يتمثّل بغليان دافع إلى ثأر، تعيشه والدة المقتول في سجنه، والرغبة في الثأر تشتعل فيها لحظة اكتشافها أنّ قاتل ابنها مسجونٌ في السجن الذي تعمل فيه شرطيةً ـ حارسة (أمْ أنّها اختارت هذه المهنة "بحثاً" عن قاتل ابنها؟).
المسألة الأخرى منبثقةٌ من المُشاهدة نفسها: لماذا اختيار فيلمٍ كهذا في مسابقة رسمية، في مهرجان مُصنَّف فئة أولى؟ طرح السؤال متأتٍ من النوع الذي يُدرج فيه "ابنان": تشويقٌ معطوفٌ على تحليل نفسي ـ اجتماعي متواضع، في بيئةٍ منحدرةٍ من أسلافٍ موغلين في العنف والتوحّش (هذا يُناقش في أفلامٍ أخرى، مشاركة في مسابقة "برليناله 74" أيضاً، أبرزها "حمّام الشيطان"، للنمساويين فيرونيكا فرانتز وسِفِرن فيالا، مثلاً). التشويق مبطّن، فالظاهر هدوء ملتبس في سلوك وتواصل وانتقامٍ، والوحش ينقضّ ويتراجع، وفي انقضاضه وتراجعه تنكشف أحوالٌ وتفكير وانفعالات ورغبات. هذا كلّه مُنجز بأسلوب سينمائي متماسك وجاذب، لكنّ الإنجاز غير مؤهَّلٍ للمشاركة في تلك المسابقة.
إيفا (سِسَاي بابِتْ كْنودسن) شرطية تعمل في قسم سجناء، في أحد السجون، محكوم عليهم بسبب تهم "بسيطة". تتعامل معهم برحابة صدر، فلا أذيّة ولا عنف ولا تشابك، بل تواصل وهدوء. وظيفة روتينية، تؤدّي أحياناً إلى تأسيس علاقات أكبر من ثنائية مجرم ـ حارس. ذات يوم، تكتشف أنّ ميكِلْ (سيباستيان بُل) منقولٌ إلى السجن نفسه، لكنْ في قسمٍ آخر، يختصّ بالمجرمين العنيفين، فتطلب نقلها إليه فوراً، لتبدأ سلسلة صدامات بينها وبينه. ورغم الإيحاء بأنّ إيفا تريد انتقاماً منه، ويكاد السبب ينكشف، عندما يُخبرها المسؤول عنها، الضابط رامي (دار سليم)، بأفعال ميكِلْ، وبينها جُرمه في قتل شابٍ مسجون؛ رغم هذا، يُحافظ "ابنان" على سويّة تشويقية، مليئة بالعناصر المطلوبة لهذا النوع السينمائي.
توتّرٌ وصدامات صامتة، وبعض الصدامات حاضرٌ في غضبٍ مباشر وعنف ملموس. لحظات مديدة تعرّي تفكيراً وذاتاً، كأنّ هناك محاولة لمصالحة مع الذات، واغتسال من ماضٍ ملوّث بدمٍ وقهر وضغوط. هذه حاضرة، وحضورها يصنع فيلماً، مشاهدته ممتعة، لكن ليس في مهرجان سينمائي أوّل، ولا في مسابقته الرسمية. بعض هذه الحالات ماثلةٌ في "المذنب" أيضاً ("العربي الجديد"، 1 أكتوبر/تشرين الأول 2018)، المبني أساساً على براعة أداء يُكُب سيدرْغين، في شخصية أصغر هولم، العامل في قسم اتصالات الطوارئ (112)، كما على نصّ (مولر وإيميل نوغارْد ألبرتْسن) متماسك، يضع الشخصية الرئيسية، بل الوحيدة الظاهرة أمام الكاميرا، في غرفة مغلقة، لكنّها مفتوحة على تداعيات ذات وانفعال وضغوط.
اتصال طوارئ من سيّدة تُدعى إيبِنْ (جيسيكا ديناج)، تُخبر هولم فيه أنّها مخطوفة من زوجها مايكل (يوهان أولسن)، وأنّ ولديها الصغيرين باقيان في المنزل وحدهما، وأنّها تريد الذهاب إليهما، وأنّها محتاجة إلى مساعدته. يجهد هولم في إنقاذها عبر الهاتف فقط، ومن داخل غرفته تلك. في 85 دقيقة، يبرع سيدِرْغرين في إظهار انفعالاتٍ ورغباتٍ وانشغالاتٍ وضغوط، فهو منقولٌ إلى تلك الغرفة ـ المهنة، بعد بدء تحقيقات داخلية معه جرّاء "قتله" شاباً "عن طريق الخطأ". إضافة إلى معاناة ذاتية متأتية من انفصال حبيبته عنه، ما يُزيد من توتّره، المنعكس في ملامحه وسلوكه وحركاته، رغم بقائه جالساً على كرسيه الوقت كلّه تقريباً.
في "ابنان"، هناك شيءٌ متشابه في شخصية إيفا: معاناتها الذاتية غير منبثقةٍ من مقتل ابنها في السجن فقط، فالأعنف كامنٌ في أنّ مقتله حاصلٌ بعد انشقاق بينهما، وابتعادها عنه كلّياً. "ذنب" تحمله جرحاً في روحها وذاتها، يتحوّل إلى غضبٍ وغليانٍ يدفعانها إلى ثأرٍ، لن يكتمل. مواجهة تخوضها، محاولةً تعذيب القاتل من دون أنْ يدري أنّها والدة الشاب المقتول على يديه. تُنسَج علاقة ملتبسة بين إيفا وميكِلْ، تبدأ عنيفة (تهاجمه في نوبة غضب، فيُصاب بكسور، وهذا كفيلٌ بتقديم شكوى ضدّها، لكنّه غير فاعل هذا، لغرضٍ في نفسه: استغلالها للحصول على منافع)، وتنتهي في لحظة لاحقة على نوعٍ من اغتسالٍ، أكثر التباساً من تلك العلاقة.
فيلمٌ مُشوِّق، كأي فيلمٍ يعاين ثنائية السجن التحليل النفسي ـ الاجتماعي، وإنْ يُشاهَد في مسابقة رسمية في مهرجان أوّل.