إيه. آر. رحمان... موسيقى هندية تهجس بالسفر والتجديد

17 يناير 2022
يسعى رحمان لخلق تواصل روحي مع الموسيقى الغربية (سوجيا جايسوال/فرانس برس)
+ الخط -

من الصعب تقييم ما وصلت إليه الموسيقى الهندية الآن من غنى فنّي وقُدرة جماليّة على التأثير في الموسيقى العربيّة والغربيّة، بسبب مركزيتها وقوّتها في اختراق الجغرافية الهندية واكتساح أذواق جماهيرها على المُستوى العالمي. وذلك راجعٌ إلى غزارة الإنتاج الهندي وتنوّعه وتشعّبه داخل قُطرٍ جغرافيّ واحدٍ، حيث تتشظّى الأغنية وتتنوّع الموسيقى وتخلق فيما بينها عناقاً جمالياً خلاّقاً لا يهدم أو ينسف القديم الذي لا يُعوّل عليه، وإنّما يُطوع موسيقياً ويُستحضر باعتباره شكلاً فنّياً يُميّز التجربة الموسيقيّة الهندية ويخلق لها طابعها المُركّب والخاصّ. لذلك، فهذا التنوّع الذي تنتجه السينما الهندية يستحيل تأمّله والإلمام بكلّ تفاصيله ومَباهجه لكثرة الأنماط الموسيقيّة التي باتت تُشكّل ترسانة جماليّة لجماليّات الفيلم الهندي. 

أمّا الأمر الثاني الذي يجعل عملية تقييم هذه الموسيقى صعبة وتحتاج إلى نظرةٍ جماليّة مُزدوجةٍ، فتتعلّق بصعوبة ضبط وتحديد ميكانيزمات بعض التجارب المعاصرة، لأنّ الكثير منها أضحى ينفي التجربة القديمة من ناحية ارتباطها ببعض الآلات الهندية التقليدية وتوظيفها داخل بعض المقاطع الغنائية، بسبب التأثير الذي تُمارسه الموسيقى الإلكترونية الغربيّة بنموذجها وآفاقها وجماليّاتها وقُدرتها على السفر الدائم صوب جغرافياتٍ أخرى من العالم. ما يجعل عملية ضبط ماهيتها وخصوصيتها صعبة إنْ لم نقُل مُستحيلة. بحيث تتشابك الأغنية الهندية مع الموسيقى الغربيّة، إذْ تتحوّل بعض التجارب الهندية إلى نسخٍ مُصغّرة من التأليف الموسيقي الغربي، وتلهث جاهدة إلى محاكاة النموذج الغربي. 

لكنْ في مقابل ذلك، يعثر المُتابع على تجارب غنائية جد مُذهلة تمزج الهندي القديم بالآخر الغربي الحديث في ما يتّصل بالصناعة الموسيقية. يبرز اسم المُؤلّف والموسيقار إيه. آر. رحمان (1967) كأبرز صنّاع الموسيقى داخل السينما الهندية. تجربةٌ موسيقيّة فريدة حقّق معها رحمان ما لم يكُن يحلم به يوماً. إذ إنَّ الصُدفة قادته يوماً وبطريقة تلقائية وارتجالية إلى تسجيل أوّل أغانيه، لكنْ سرعان ما تحوّلت هذه الصدفة إلى قدرٍ كبيرٍ في سيرة وحياة إيه. آر. رحمان وجعلته على عرش الموسيقى الهندية المعاصرة ومُتوّجاً بجائزة الأوسكار و"بافتا" و"غرامي" عن بعض موسيقاه داخل أفلام سينمائية يبقى أشهرها "المليونير المُتشرّد"(2008). 

ورغم حصوله على مُجمل الجوائز الموسيقيّة العالمية، فإنّ ذلك لم يقف حاجزاً منيعاً عند تقدّم تجربته وتقديم ستايلاتٍ مغايرةٍ وأفق مُنفلتٍ للموسيقى الهندية وتقديمها بحلّة معاصرة تتوغّل أكثر في كل ما هو روحيّ - صوفي وتنفي معه أيّ طابعٍ ترفيهي أو بُعدٍ تجاريّ داخل موسيقاه. وعلى الرغم من أنّ شهرته تعدّت الحيّز الجغرافي الهندي واخترقت آفاق العالم، يُؤمن رحمان أنّ الجوائز لا تصنع موهبة الموسيقي، ولا تُغذّيها روحياً، بقدر ما تدفع الاجتهاد وخلق التجديد وتكسير القوالب الموسيقيّة المُتعارف عليها في تاريخ الأغنية. فلا غرابة أنْ يعتبر الموسيقار الهندي أنّ حصوله على الـ"أوسكار" مجرّد حدثٍ عاديّ في حياته، ما دام يطمح إلى المَزيد والخلق والابتكار وتجديد الموسيقى الهندية وجعلها مدرسة قائمة بذاتها داخل الموسيقى العالمية وتتمتّع دوماً بالبهاء والتوهجّ في نفوس الناس ومَشاغلهم اليوميّة.

والحقيقة أنّ إيه. آر. رحمان خلق للموسيقى الهندية المعاصرة مكانة بارزة في نفوس العالم. إذ إنّ المُثير للدهشة أنّ موسيقاه ساهمت في نجاح كثير من الأفلام الهندية وخلقت لها جمهوراً واسعاً. وهذا أمرٌ لا يوجد حتّى في السينما الهوليوودية، إذ تُصبح مداخيل موسيقى الفيلم التصويرية أكبر من عائدات الصالات وقيمة إنتاج الفيلم ككلّ. ما جعله أكثر الموسيقيين شهرة وطلباً من مخرجين من مختلف دول العالم. لكنّ تجربة إيه. آر. رحمان تنبع من قناعاتٍ ذاتيّة في تعاملها مع الفيلم السينمائي، ولا ترتبط بأيّ هاجسٍ تجاري فاقعٍ بالنسبة لفنّان وموسيقيّ هنديّ وُلد فقيراً في مدينة مدراس (تحوّل اسمها اليوم إلى تشينّاي) وقاده شغفه بالفنّ السابع إلى دراسة الموسيقى الكلاسيكية الغربية والعمل بموسيقى الأفلام. 

خلق للموسيقى الهندية المعاصرة مكانة بارزة في نفوس العالم

لذلك يظلّ رحمان يؤمن في الوقت ذاته، بأنّ مُستقبل الموسيقى الهندية يقتضي أساساً الاستناد إلى خلق نوعٍ من التواصل الروحي مع نظيرتها الغربيّة وإعادة إحياء أشكال الموسيقى الكلاسيكية في العالم وفق قالبٍ معاصرٍ يُراعي خصوصيات وتراث الموسيقى الوطنية، لكنّها تتنطّع دوماً إلى التمرّد على هذا التراث اللامرئي وذلك بنسج صداقات موسيقيّة مع تراث الآخر الفنّي والموسيقي.

جسدياً، لا يتوفَّر إيه. آر. رحمان على صورة خارجية تجعله مُؤثّراً وفاعلاً داخل خشبات المسارح العالمية عن طريق الرقص والكليشيه البصريّ، بحكم شخصيته الانطوائية ونزوعه الدائم إلى الصمت والتأمّل، مقارنة ببعض صنّاع الموسيقى داخل الهند. لذلك لعبت السينما دوراً محورياً في سيرته الموسيقيّة وجعلته قريباً من وجدان المُستمع العالمي.

لكنْ بقدر ما أفادت السينما وصنعت تجربته الموسيقيّة داخل أضخم الأفلام البوليوودية نجاحاً وانتشاراً، حقّق إيه. آر. رحمان من جهته طفرة ملموسة لهذه الأفلام، فاستقطب لها عدداً هائلاً من عشّاق الفنّ السابع، وأيضاً من الوجوه الجديدة التي تسلّلت إلى عمق الصورة السينمائية وأضحت تصنع لها موسيقياً الحدث عالمياً، بعد الموجة الهستيرية الترفيهية التي وسمت الفيلم الهندي في السنوات الأخيرة وجعلته هشّاً ومُرتبكاً.

المساهمون