لو كان عملاقا السينما الفرنسية، المغني والممثل إيف مونتان والممثلة سيمون سينيوريه، على قيد الحياة اليوم، لكانا بلغا عام 2021 سن المائة، هما اللذان بقيت شراكتهما في الحياة صامدة طويلاً، رغم كل التقلبات بفضل التزام سياسي واحد جمعهما.
من النظرة الأولى، نشأت شعلة الحبّ بينهما، وبدأت القصة. كان ذلك في أغسطس/آب عام 1949، في مقهى "لا كولومب دور"، في سان بول دو فانس (جنوب فرنسا)، حيث كان يمضي صديقهما المشترك، الكاتب جاك بريفير، أوقاته.
كانت سيمون كامينكر، المولودة في 25 مارس/آذار عام 1921، والتي اختارت اعتماد اسم عائلة والدتها قبل الزواج، تمضي إجازة مع ابنتها تحت أشعة شمس الجنوب الفرنسي. كانت امرأة متألقة ومثقفة، يزيدها رونقاً صوتها المفعم بالأنوثة. يومها، كان زوجها، المخرج إيف أليغريه، في باريس، وكانت علاقة الحب بينهما تشكّل نموذجاً مثالياً، هي التي دخلت عالم النجومية منذ أن صوّرها في أول دور كبير لها في "ديديه دانفير".
في لا كولومب دور، تعارف إيف وسيمون بواسطة جاك بريفير، ومذّاك حصل شيء مذهل وطائش لا رجعة فيه
أما مونتان الذي كان فتىً وسيماً يتميز بشجاعته، ويصغر سيمون ببضعة أشهر، فكان يحيي حفلات موسيقية في مكان غير بعيد. هو ابن مهاجرَين إيطاليين، واسمه الأصلي إيفو ليفي، نشأ في مرسيليا، وعمل منذ أن كان في الحادية عشرة، وباتت له مكانة على الساحة الموسيقية، واتخذ لنفسه اسم إيف مونتان، استوحاه من مناداة والدته له صغيراً، بالإيطالية "إيفو، مونتا" (أي إيفو، اصعد). كان قلب زير النساء هذا مثخناً بالجراح، بعدما هجرته المغنية الشهيرة إديت بياف التي ساعدته في بداياته الفنية، وفتحت له طريق النجاح، وارتبطت معه بعلاقة عاطفية، فعاهد نفسه على ألا يقع في الحب مجدداً.
في "لا كولومب دور"، تعارف إيف وسيمون بواسطة جاك بريفير، ومذّاك حصل "شيء مذهل وطائش لا رجعة فيه"، على ما قالت الممثلة يوماً. تركت سيمون كل شيء من أجل إيف. قبل أن يتزوجا، انتقلا للعيش معاً في شقتهما في ساحة دوفين في باريس. وفي شرنقتهما الباريسية التي سُميَت "لا رولوت"، كما في منزلهما الريفي في أوتوي في منطقة نورماندي (شمال فرنسا)، كانا يستضيفان الكثير من أصدقائهما اليساريين، في لقاءات اجتماعية لم تكن تخلو من الأحاديث السياسية، يناقشون خلالها كيفية تغيير العالم.
خاضا معاً معارك كثيرة، رفضاً للأسلحة النووية، واستنكاراً للمكارثية، ومطالبةً باستقلال الجزائر، ودعماً للاجئين التشيليين، وإدانةً للعنصرية
كان الزوجان يتشاركان الميول السياسية نفسها. ورثت سيمون من والدتها "نوعاً من السلمية"، وكان اتصالها الأول بعالم البروليتاريا من خلال عائلة مونتان الذي "لمس وهو بعد صغير السن ماهية القمع والنضال والإذلال". معاً، خاضا معارك كثيرة، رفضاً للأسلحة النووية، واستنكاراً للمكارثية، ومطالبةً باستقلال الجزائر، ودعماً للاجئين التشيليين، وإدانةً للعنصرية. ولكن كانت لهما أيضاً وقفات معارضة لما كان المعسكر السوفييتي يشهده من ممارسات، منها مثلاً مشاركتهما معاً في "لافو" (الاعتراف)، أحد أفلامهما الخمسة المشتركة.
لم ينضوِ الممثلان يوماً تحت راية الحزب الشيوعي الفرنسي، بل كانا يلتقيان معه. إلا أنهما افترقا عنه عام 1956، خلال جولة مونتان في الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية. كان ذلك مباشرة بعد التدخل السوفييتي في المجر. تردد الزوجان، لكنهما ذهبا في نهاية المطاف. كانت الجولة ناجحة، لكن شابها شيء من الحزن. في مترو موسكو، قرأت سيمون في بعض النظرات ما فحواه "بمجيئكما، خنتمانا". وقال مونتان: "ما زلت آمل، لكني لم أعد أصدق". حتى أن بطل "سيزار إيه روزالي" و"زد" و"جان دو فلوريت" تحوّل إلى ليبرالي في ثمانينيات القرن العشرين، ما أثار استياء سيمون.
نالت جائزة "أوسكار" في إبريل/نيسان عام 1960، عن فيلم "لي شومان دو لا هوت فيل"
كما فعلت في موسكو، كانت سيمون تحرص على حضور كل حفلات زوجها في فرنسا، ولو على حساب مواعيد تصوير الأفلام التي تشارك فيها. بالنسبة إليها، كانت الأولوية له. وبعيداً من الفكر النسوي، قالت ذات مرة عن ذلك إن "الحياة الزوجية تُبنى على أسس متينة وهي بمثابة قانون الطبيعة: الرجل يهيمن والمرأة تخضع". وفي حديث آخر، قالت: "لم أكن يوماً إلاّ المعجبة به، وأنا فخورة جداً بذلك".
لكنّ ذلك لم يحُل دون أن تكون مسيرتها المهنية ناجحة، من فيلم "كاسك دور" إلى "لا في دوفان سوا" مروراً بـ"لارميه ديزومبر" و"لو شا". ونالت جائزة "أوسكار" في إبريل/نيسان عام 1960، عن فيلم "لي شومان دو لا هوت فيل". وإذا كانت 1960 سنة النجاح العالمي، من خلال هذه الجائزة، فشكّلت أيضاً سنة الإذلال؛ إذ غادرت سيمون هوليوود متوجهة إلى روما، حيث كانت مرتبطة بتصوير فيلم، وبقي مونتان في عاصمة السينما للمشاركة في "ليتس ميك لاف"، وما كان من زميلته في الفيلم مارلين مونرو إلا أن أغرمت بهذا المغني الفرنسي الوسيم.
كانت العلاقة مع مارلين مونرو الضربة الرئيسية لزواج مونتان وسينيوريه، إلى جانب ضربات كثيرة أخرى. وحاولت سيمون أن تجعل موقفها متفهماً بقولها: "هل تعرفون رجالاً كثراً يمكن ألا يكترثوا إذا وجدوا مارلين مونرو بين ذراعيهم؟". ومع ذلك، لم تنسَ سيمون أبداً.
كانت العلاقة مع مارلين مونرو الضربة الرئيسية لزواج مونتان وسينيوريه
عام 2004، اتهمت الممثلة كاترين أليغريه زوج أمها إيف مونتان بالتحرش بها. باتت المشاكل كثيرة بين الزوجين، وراحت سينيوريه تُكثر من شرب الكحول والتدخين، فشاخت قبل الأوان، ولجأت إلى الكتابة. وبقي بين الزوجين تناغم عاطفي، مع أن كلاً منهما عاش حياة مستقلة عن الآخر.
رحلت سيمون عام 1985 بالسرطان، وعاش إيف بعدها ست سنوات، أعاد خلالها بناء حياته، فأصبح أباً للمرة الأولى. لكنّ مقبرة بير لاتشيز الباريسية لمّت شمل الزوجين مجدداً، وفيها يرقدان إلى الأبد.
(فرانس برس)