ألغت المحكمة العليا الأميركية، في 24 يونيو/حزيران، الحق الدستوري في الإجهاض، تاركةً لكل ولاية في البلاد أن تقرر مصير نسائها، عبر السماح بالإقدام على هذا الإجراء أو تجريمه، بعد نحو خمسين عاماً من القرار التاريخي الذي قضى بتشريعه وعُرف باسم "رو ضد ويد". اعتبر كثيرون القرار عودة مخيفة إلى قرون ماضية وإلى زمن لا حق فيه للنساء في امتلاك أجسادهنّ. ولكن هذا السفر عبر الزمن ليس مجرّداً، بل هو عودةٌ إلى الوراء، ولكن في وقت تمتلك فيه البشريّة إمكانات تكنولوجية مهولة.
تجريم اللجوء إلى الإجهاض هذا يجري في عصر رقميّ قادر ومتمكّن من جعل الأفراد- وفي هذه الحالة النساء تحديداً- صيداً سهلاً. أسابيع قبل صدور قرار المحكمة، بدأت التحذيرات من إمكانية استفادة القضاء من البيانات الشخصية للنساء، المتوفّرة على شبكة الإنترنت، في سبيل تسهيل تجريمهنّ ومحاكمتهنّ.
ما الذي يحصل؟ وما التهديد الذي يواجه النساء في الولايات المتحدة الأميركية، والمُتعلّق بحقهنّ في الإجهاض؟ في الثالث من مايو/أيار، غرّدت الكاتبة والناشطة الأميركية إليزابيث ماكلوغلين، داعيةً النساء اللواتي يستخدمنَ تطبيقات لتتبّع مواعيد دورتهنّ الشهرية إلى حذفها فوراً ومسح بياناتهنّ الشخصية. حصل هذا مع بدء التسريبات والحديث عن احتمال تراجع المحكمة عن قرار تشريع الإجهاض.
اليوم، تزايدت التحذيرات من خطورة هذه البيانات الشخصية وغيرها في تسهيل تعقّب النساء ثم تجريمهنّ، في حال محاولتهنّ اللجوء إلى الإجهاض. هل تأتي هذه التحذيرات من عبث؟ أم أن هذه التطبيقات تُشكّل فعليّاً تهديداً للنساء؟
عمليّاً، تقوم هذه التطبيقات على حساب موعد الدورة الشهرية. تُزوّدها النساء ببعض المعلومات الشخصية، مثل عدد أيام الدورة، وتواريخ ممارسة الجنس الآمن أو غير الآمن، وتغيّر لون الدم، وغيرها من التفاصيل. يحدد التطبيق لاحقاً تاريخ الإباضة، أو توقع حصول حمل من عدمه. هذه البيانات الشخصية التي تطاول صحة النساء ونوعاً من الحميميّة غالباً ما تستفيد منها التطبيقات عبر تشاركها مع أطراف ثالثة أو أكثر، كما أنه يسهل الحصول عليها عبر الاطلاع على هاتف أو حاسوب المستخدم. تجارة البيانات الشخصية معروفة ورائجة، وغالباً ما تبيع التطبيقات بيانات مستخدميها الشخصية لجهات التسويق والمبيعات الخارجية. وإن كانت القوانين العالمية اتفقت على سرية المعلومات الصحية الشخصية، ومنعت تناقلها، على عكسها قدّمت هذه التطبيقات حرية واسعة واستباحة لهذا النوع من البيانات عبر توزيعها.
على الصعيد القانوني، يُمكن للسلطات الاعتماد على هذه البيانات لإثبات لجوء المرأة إلى الإجهاض، أو لإثبات نيّة في اللجوء إليه، وتالياً مخالفة القانون. وهذا ما توقعه كثير من العاملين في مجال الحريات الإلكترونية، وحذّروا منه. مديرة الأمن السيبراني في مؤسسة الحدود الإلكترونية الأميركية، إيفا غالبرين، صرّحت لموقع تِك كرانتش، عن اعتقادها أن البيانات الشخصية التي تجمعها تطبيقات تتبّع الدورة الشهرية ستكون في المستقبل خيطاً للوصول إلى اللواتي خضعن لعمليات إجهاض. وهذا ليس التحذير الوحيد لغالبرين، فهي قد غرّدت حول خطورة المرحلة: "الفرق بين ما يحصل الآن والمرة الأخيرة التي كان الإجهاض فيها غير قانوني في الولايات المتحدة هو أننا نعيش اليوم في عصر المراقبة الرقمية غير المسبوقة".
لكن هل هذه التطبيقات هي الخطر الرقمي الوحيد الذي يُحيط بالنساء؟ يبدو أن الجواب هو كلا. هذا العيش والاستعانة المتواصلة بالإنترنت ستُحاصر النساء تباعاً في الولايات المتحدة، وستصير كابوساً خلال سعيهنّ للالتفاف على القانون ومحاولة الإجهاض.
في الأيام الأخيرة، نشرت صحف حول العالم مقالات تحذيريّة من خطورة العالم الرقمي في قضية الإجهاض. حذرت مؤسسة الحدود الإلكترونية، وهي مؤسسة رائدة في الدفاع عن الحريات الرقمية في الولايات المتحدة، في بيان لها، من التحدّيات التي تواجه القائمين على كبرى الشركات والتطبيقات الإلكترونية، فـ"كلّ من يبحث أو يُقدّم أو يسهّل الوصول إلى الإجهاض، كل أثرٍ متروك على شبكة الإنترنت، يُمكن للسلطات الوصول إليه". هذا الأثر على الإنترنت يمتدّ ليطاول كل شيء، ما يوجب على الشركات اتّخاذ مواقف واضحة، أولاً لحماية مستخدميها، وثانياً للحدّ من قدرة المحاكم على إدانة النساء.
ما الأثر الذي يُمكن تركه عبر الإنترنت؟ نبدأ من تقنيات تحديد المكان الجغرافي "جي بي إس" التي يُمكن أن تصير دليل إدانة لامرأة جرّبت البحث أو الانتقال فعليّاً من ولاية إلى أخرى لإجراء عملية إجهاض. البيانات الشخصية على تطبيقات للتنقّل مثل أوبر. عملية بحث بسيطة عبر محرك غوغل حول عنوان عيادة لإجراء الإجهاض. عملية بحث عن كيفية الحصول على دواء أو طريقة طبية للإجهاض. هذه كلّها معلومات حساسة من المُمكن للسلطات الوصول إليها. معلومات ستكون فاصلة في حيوات النساء في أميركا. يكفي أمر رسمي من المحكمة للحصول على بيانات المستخدم، أو العودة المباشرة والاطلاع على الهاتف أو الحاسوب الشخصي للوصول إلى هذه المعلومات.
في هذه الحالة، كيف يُمكن حماية النساء وما الذي تنوي الشركات فعله؟ تطبيق فلو المتخصّص في تتبع الدورة الشهرية أعلن عن إطلاق خاصيّة جديدة وهي "وضع المجهول" الذي يمسح كل المعلومات الشخصية من حساب المستخدمة، بشكل لا يُخفي هوياتهنّ. وأجاب تطبيق كلو، المعروف في المجال نفسه، عن تساؤل المستخدمات حول قدرته على حمايتهنّ وحماية بياناتهنّ الشخصية. في حالة "كلو"، تتواجد البيانات في أوروبا، وتالياً هي محمية بموجب القانون الأوروبي، الأمر الذي لا يُجبر الشركة على الاستجابة لطلبات المحكمة الأميركية في الحصول على بيانات المستخدمات.
"فلو" و"كلو" اثنان من أكثر تطبيقات تتبّع الدورة الشهرية شيوعاً في الولايات المتحدة، فلديهما أكثر من 55 مليون مستخدم مجتمعين.
منذ قرار المحكمة، توالت البيانات والمواقف للمؤسسات والشركات الإلكترونية. بعد قرار المحكمة، صرّح أحد المتحدثين باسم شركة أوبر لمجلة فاست كومباني، بأن الشركة ستدعم السائقين العاملين لديها وستحميهم، وستسدّد النفقات القانونية، في حال مقاضاة أي منهم بموجب قانون الولاية، في حال نقل امرأة إلى عيادة للإجهاض. كما أعلنت شركة غوغل أنها ستحذف سجل مواقع المستخدمات عندما يزرن عيادات الإجهاض وملاجئ العنف المنزلي، وغيرها من الأماكن التي يقصدنها للحصول على الخصوصية، مثل مراكز الخصوبة ومرافق علاج الإدمان وعيادات إنقاص الوزن.
هذه التطمينات والبيانات التي تلجأ إليها الشركات ما زالت غير كافية. الخناق يشتدّ تصاعديّاً على حيوات النساء، وذلك عبر توالي الحديث عن قوانين وتوجهات لتجريم أي محاولة للالتفاف على القانون الجديد. فهل سيكون العالم الرقمي بوابة عبور للنساء، أم سيكون مساعداً في خنقهنّ وحرمانهنّ من تقرير مصائرهنّ؟