إضراب كتّاب هوليوود... بعد أن عادت الأقلام وابتلّت الصحف

09 أكتوبر 2023
استمرّ الإضراب 148 يومًا (كارولين كول / Getty)
+ الخط -

بلغ عدد المضربين، من القطاعات المختلفة، أكثر من 360 ألف عامل وعاملة هذا الصيف في الولايات المتحدة، في ما أُطلِق عليه لاحقًا اسم "صيف الإضرابات الساخن". فعلى صعيد الأرقام المجرّدة، شكّل هذا الرقم زيادة ملحوظة مقارنةً بصيف 2021، حين بلغ عدد من طفح بهم الكيل قرابة 36 ألف عامل وصيف 2022، حين وصل عددهم إلى 224 ألف مضرب. كما أن تنوع وتعدد القطاعات المشاركة، لا شك أعطاه دفعة إضافية وقطع الطرق أمام تجاهله، أو اعتباره غير مرئي، في فترةٍ كان يسهل ضياع الأخبار فيها مع وصول "السخونة" إلى درجات قياسية حول العالم، واستمرار النزاعات المسلّحة في عدد من دول العالم. إلا أن الإضرابات صمدت، وبعضها يبدو أنه يتجه للحل، كما في حالة إضراب الكتاب الذي انتهى بتسوية تستحق التأمل.

حيث حل النصر

بدأ الإضراب في الثاني من مايو/أيار هذا العام، على إثر تصويت أكثر من 98% من أعضاء نقابة كتّاب السيناريو باللجوء للإضراب، بعد فشل المفاوضات مع تحالف منتجي الصور المتحركة والتلفزيون حول قضايا صارت جوهرية بالنسبة للكتاب.
فمن جهة، لعبت المتغيرات الأوسع دورًا في تحفيز مطالب الكتاب، إذ وجد هؤلاء أنفسهم أمام أجورٍ تتقلّص فعليًا بفعل التضخم، وهيكلة لعقودهم تهدد أمان وظائفهم، وتحولها لأعمال مستقلة ومهددة. إلا أن تغييرات أصابت الصناعة نفسها، وضعت الكتاب في هذه المواجهة مع أرباب عملهم من الاستوديوهات وشركات الإنتاج؛ إذ دفع الاتجاه نحو منصات البث كوسيطٍ للعرض، بتغييرات أصابت المضامين نفسها، وصار الشائع إنتاج أعمال تلفزيونية بمواسم أقصر وحلقات أقل، وبالطبع انعكس هذا على القوة العاملة التي تنتج هذه المضامين، من غرف كتابة تتضاءل أحجامها، وصولًا للعوائد المالية من إعادة عرض الأعمال، التي أضر بها الانتقال نحو البث الرقمي. 
ومن جهة أخرى، اتخذت هذه المعركة، على عكس الأخيرة التي جرت عام 2007، طابعًا مختلفًا، إذ رأى فيها كثيرون ما يمكن عدّه "وقفة الإنسان ضد الآلة"، والمقصد يشير إلى الذكاء الاصطناعي، الذي أثيرت معه الأسئلة عن مستقبل الكتابة نفسها. 
دام الإضراب 148 يومًا، انضمت خلالها نقابة الممثلين التي لا يزال إضرابها قائمًا، بتكلفة قدرت بخمسة مليارات دولار أميركي بين مشاريع ألغيت أو أجلت. واليوم، يبدو مع انفراج الأزمة أن الكتاب -كما يقولون على الأقل- قد حظوا بصفقة أكثر عدلًا، رغم كل ما قالته الاستوديوهات سابقًا عن رفضها الانصياع للضغوطات، فما الذي فازوا به تمامًا؟
وفّرت نقابة الكُتّاب مستندًا على موقعها، يفصّل مطالبها الأولى ورد التحالف عليها، ومن ثم الصيغة النهائية التي خلص إليها الطرفان، ويمكن عند قراءته فهم الأسباب التي أطالت هذا الخلاف. فبأبسط التعابير، كانت مقترحات التحالف للصيغة الجديدة من الاتفاق ستكلّف الاستوديوهات ما قدره 86 مليون دولار في العام الواحد، مقابل صيغة النقابة التي كانت ستكلّف 429 مليون دولار، ليخلص الطرفان إلى 233 مليون دولار كقيمة إجمالية للصفقة. 
إلا أن طرح الاتفاق بهذا الشكل، يغفل الكثير من التفاصيل في عقدٍ، شأنه شأن معظم العقود، لا تقل فيه الصيغة أهمية عن الأرقام النهائية؛ إذ نجح المضربون مثلًا في اعتبار كل كاتبٍ عضوٍ في فريق للكتابة، بمثابة كاتب فرد حينما يتعلق الأمر بتعويضات الصحة والتقاعد، عوضًا عن تقاسمها كما كان يجري في السابق، وذلك بعد رفع نسبة مساهمة الاستوديوهات في هذه الصناديق من 11.5% إلى 12% من أرباحها المعلنة، فضلًا عن رفع الحد الأدنى من الكتاب في غرف التطوير والكتابة التي كانت آخذة في التقلّص أخيراً ومدد العقود التي تضمن توظيفهم، الأمر الذي يخفف من الطابع الحرج للعمل في هذه المهنة. كما تجاوزت التحسينات في الاتفاق الجديد أجورًا أفضل وحسب، وامتدت إلى آليات ومدة الدفع التي كانت تستغرق وقتًا أطول في الاتفاق السابق. 
يمكن عند هذا الحد فهم اللهجة المنتصرة التي ميّزت إعلان النقابة، خصوصًا عندما نقاطع هذه المطالب مع ردود الاستوديوهات الأولية. إلا أن فرحة الانتصار، مهما كانت في لحظتنا الراهنة مستحقة ومهمة بحق، لا يجب أن تغفل النظر عن تفاصيل أخرى أولًا، وعن الأسئلة الهامة حيال المستقبل بدرجة ثانية.

حيث بقيت الأسئلة

كان الكُتّاب في ما مضى يجنون عوائد من إعادة عرض الأعمال التي كتبوها، إما وفقًا لمبلغ ثابت، أو بناءً على نسبة مما تحققه عملية إعادة العرض نفسها. إلا أن عصر البث غيّر من هذه العملية، ولذلك حضرت هذه المطالب بقوة في عملية التفاوض. فبينما تجني المنصات أرباحها من الاشتراكات، وليس من البرامج نفسها، صار حساب هذه العوائد معقدًا ولذلك لجأت الاستوديوهات إلى نسبٍ ثابتة، لا يبدأ احتسابها إلا بعد 90 يومًا من بث الأعمال على المنصات، وهو ما يقول كثيرون إنه السبب في اختفاء بعض الأعمال عن المنصات بعد أشهر قليلة بشكل مفاجئ. 
إزاء هذه المشكلة، خرج الاتفاق الجديد بصيغة مختلفة تعتمد على نسب المشاهدة، إلا أنها لم تخل من المطبات التقنية هي الأخرى. فوفقًا للاتفاق الجديد، يجب على الأعمال التي ينال القائمون عليها هذه العوائد، أن تحقق نسب مشاهدةٍ تتخطى 20% من مشتركي المنصة داخل الولايات المتحدة خلال أول 90 يومًا من عرض العمل، أو الأيام التسعين الأولى من أي سنة يُعرَض فيها، مع وجود حسبة مختلفة للمشاهدات الأجنبية.

بدايةً، يوضح الرقم الكبير هذا العقبة الأولى أمام الكتّاب، ما يطيح حقوق الكثيرين منهم ممن يعملون على أعمالٍ صغيرة. أما المشكلة الأكبر فتكمن في البيانات. إذ اقتضى نموذج عمل المنصات في السنوات الأخيرة، تكتمًا هائلًا على نسب المشاهدة وغيرها، ووجدت بعض المنصات نفسها في مشاكل بسبب هذا الغموض، ولمّا كان الوصول إلى هذه البيانات محدودًا بجهة واحدة (وإن وعدت المنصات بتوفير البيانات لأعضاء محددين من النقابة)، فإن تقدير هذه العوائد سيكون عرضةً للتلاعب في أي وقت. 
وعلى اعتبار أن هذه المعركة لم تكن بين العمال والمدراء الأشرار فحسب، بل شُبِّهت بصراع بين البشري والآلة، كان من الطبيعي أن يحتل ملف الذكاء الاصطناعي حيّزًا لا بأس به من المفاوضات. ولحظة الإضراب، كان التخوّف من اتجاه الاستوديوهات نحو الذكاء الاصطناعي يشكل هاجسًا للكتاب، مدفوعًا لا شك بالزخم الذي اكتسبته المفردة نفسها هذا العام. 
ورغم أن الاتفاق الجديد يمنع الشركات من إجبار الكتّاب على استعمال الذكاء الاصطناعي أو خفض مستحقاتهم عبر توظيفهم في عمليات تعديل وإعادة كتابة النصوص المولدة من قبل التقنية (والتي ستجبر الشركات على الإفصاح عن مصدرها هذا)، وينص صراحة على أن المواد المنتجة من قبل هذه التقنية ليست موادّ أدبية ولا يمكن استعمالها كذلك، فإن الاستوديوهات لا تزال، وفقًا للبعض، قادرة على التلاعب قليلًا ضمن مساحتها الجديدة، إن كان ذلك في العمليات التي تقع خارج نطاق الكتابة -وهو ما يثبته تبني نقابة الممثلين للقضية ذاتها- أو في ما سيحمله المستقبل من تطورات تشهدها التقنية وقد لا تستطيع اتفاقية تمتد حتى عام 2026 أن تتوقعها وتغطيها اليوم.
وتبدو النقطة الأخيرة مهمة، خصوصًا حين نرى أن الاتفاقية الجديدة حاولت استباق ذلك عبر بندٍ يقتضي بعقد اجتماعات نصف سنوية لمناقشة هذا المشهد المتغيّر مع الاستوديوهات، وهي خطوة لا يمكن التنبؤ بفعالياتها خلال حقبةٍ قد يكون درء خطر الذكاء الاصطناعي عنوانها.

إيجابيات وتساؤلات

بشكل عام، تشير الاتفاقية -حيث تنجح وحيث تترك التساؤلات- إلى عدة نقاط مهمة دفعة واحدة. فمن ناحية العدد والجدوى، ربما تكون العودة إلى التمثيل المنتظم للعمال أكثر النقاط إيجابيةً، خصوصًا في قطاع إبداعي وفي بلدٍ مثل الولايات المتحدة، باعتبار هذين الشرطين غالبًا ما يصعبان نشوء تنظيم بهذا الشكل. ولأن الإضراب، أي إضراب، لا بد أن يُسبَق بمسوّغٍ فقد أثبتت هذه الأزمة الأخيرة أن المسوّغ لن يستثني أحدًا، وإن كان ممثلو وكُتاب هوليوود مستعدين لينشروا صورًا لحسابات بنوكٍ فارغة، في خرقٍ كامل للصور المعتادة حول ظروف معيشتهم، فإن الصورة لن تكون أنصع في القطاعات والدول الأخرى. 
أخيرًا، وكما تشير مقالة في موقع "ذا ديلي مافيريك"، فإن التخوّف من تغلغل الذكاء الاصطناعي في الصناعات "الإبداعية"، لم يكن ليتبلور بهذه القوّة لولا ما تسميه المقالة بظاهرة "الريميك السابع أو الثامن والممل" لعملٍ مشهور، في إشارةٍ للعلاقة بين الإنتاج الكسول المكرر، الذي تفرضه الاستوديوهات، وخطر الروبوتات التي إن أجادت أي شيء فسيكون التكرار حقيقةً، على النقيض منا، وهو ما يؤكد على نطاقٍ أوسع أن هذا الصراع مع الروبوتات يحمل فيه صراعًا مع منظومة أوسع تفرز ثقافتها وأعمالها ومستثمريها ومدراءها التنفيذيين.

المساهمون