في ميدان الصحافة، يطرح مصطلح "الأنسنة" دعوةً علانيةً إلى الالتفات نحو قصص ضحايا الكوارث الكبرى بصفتهم أفراداً مستقلين عن بعضهم بعضاً، وعدم اختزال مأساتهم بالأرقام، وتكثيف الفاجعة، فهم ليسوا كتلةً بشريةً صماء، لا روح فيها، ولا معالم لها.
حصيلة الضحايا أو الأرقام المجردة التي تتسابق وسائل الإعلام إلى عرضها، تحمل في أعماقها سجلاً من التجارب الإنسانية والأحلام، وقصص الحياة. فالضحايا في وسائل الإعلام، ينتهون إلى نزع كينونتهم الإنسانية، واختزال قصصهم بالرصاص التي أنهى حياتهم، بصرف النظر عن تفرّدهم وخصوصية حكاياتهم.
يتردد في قطاع غزة شعار صارخ، يحمل في طياته كثيرا من الألم، يؤكّد أن الضحايا "ليسوا أرقاماً". فعندما استعرت نيران العدوان، ودخلت وسائل الإعلام بلغة باردة تفتقر إلى العاطفة في سباق لإحصاء أعداد الضحايا التي تتزايد يوماً بعد الآخر، نشطت حملات تصيح بشعاراتٍ تنادي بالإنسان بعيداً عن خطاب الأرقام البليد الذي يسلب الضحايا شخصياتهم، ويحولهم إلى كائنات مجردة.
لطالما تعامل الاحتلال مع الفلسطينيين عموماً، والغزيين منهم على نحوٍ خاص، بصفتهم زُمراً عددية يسعون إلى شطبها عبر نقلها من خانة الأحياء إلى خانة الأموات، ليغدو ما يقارب مليوني نسمة في قطاع غزة، مليوني محاصر أو مليوني شهيد.
ربما تشير أعداد شهداء غزة المتزايدة بتسارع مهول، يوماً بعد يوم، إلى هول الإجرام الذي يرتكبه الاحتلال في القطاع المحاصر وأهله. تحمل هذه الأرقام تراجيديا كبيرة، ولكنها لا تشير إلى الأفراد وحياتهم الخاصة، حكاياتهم وأحلامهم. قد ينسى المطلع على هذه الأرقام أن للضحايا قصصاً. لهذا السبب، أسس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان موقع "لسنا أرقاماً" (WANN) أوائل عام 2015.
بعد مرور سنة على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، فسح الموقع مجالاً حيوياً أمام الفلسطينيين القابعين تحت الاحتلال لقصّ حكاياتهم باللغة الإنكليزية، لتصل إلى أكبر شريحة من الجمهور. وبعد العدوان الأخير، تحوّل الموقع ليصبح منصة رقمية متاحة أمام الغزيين الذين يودون توثيق تجربتهم القاسية مع الحرب.
من رحم العدوان الحالي، تكتب هيا أبو نصار على موقع "لسنا أرقاماً": "خرجت أنا وعائلتي للمرة الرابعة منذ 40 يوماً، ولجأنا إلى خيمة في العراء في منطقة خانيونس". هيا واحدة من مليوني غزي يواجهون يومياً خطر الموت والجوع والحصار ورعب الفقدان. كلمات هيا المترعة بالقهر، هي توثيق لحال الفرد الغزي الذي يرفض الخطاب المهيمن في وسائل الإعلام التي لا تلقي بالاً للقصص، بل تتعامل مع الجميع كأنهم إنسان واحد مات من دون أن يعيش أي تجربة حياة تدل على تفرده.
في غزة، تكتب أسماء الأطفال على أجسادهم المتشظية، كي يتسنى لعائلاتهم معرفتهم، ولكي يعلموا أن هذه الأشلاء تعود إلى ذاك الجسد الذي كان قبل العدوان ينبض بالحياة. فكيف للطفل الذي لطالما شاغب بلعبه الصبيانية أن يغدو رقماً، هو الذي تمنى أن يشتري قميصاً يحمل رقم لاعبه المفضل، بات يحمل عدداً في خانة الأموات تصوغه نشرات الأخبار ضمن حصيلة.
يروج العالم الأول في أجنداته الليبرالية إلى مصطلح "الفردانية" التي تعكس تعطش الفرد للاستقلال والتميز، فيعلي من شأن الفرد بما يتناسب وسياساته. لكن هذه الفردانية تذهب إلى الأفول عند الحديث عن الحروب والكوارث الكبرى؛ إذ يقضي البشر نحبهم بالجملة، ولا سيما في ما يتعلق بالشأن الفلسطيني، فلطالما روّج الإعلام، قصداً أو عن غير قصد، لخطاب يصبّ في مصلحة الاحتلال، وهو التعامل مع الفلسطينيين كرابطة تنصهر بعضها في بعض. وعندما تقتل، تقتل دفعة واحدة.
تراقب هيا بجانب خيمتها سماء غزة فيما تجتاحها الطائرات الإسرائيلية، وتعلق: "يذكرني صوت الطيران بأولئك الذين يفتكون بأطفالنا وأصدقائنا وأقاربنا بوحشية. أولئك الذين يغرقوننا في حزن لا نهاية له. نحن في غزة نعاني من الجوع والبرد، عظامنا ينهشها البرد. هل سيقرأ أحد قصصنا؟".
الحزن. هل يمكن أن تقيس وسائل الإعلام الحزن بالأرقام؟ الحزن الذي يتحدث عنه الغزيون ذاك الذي اجتاحهم جميعاً وخيم عليهم وسكن بيوتهم المدمرة ونزح معهم إلى خيامهم.
من بين الضحايا، اغتالت إسرائيل أحد مؤسسي حملة "لسنا أرقاماً"، كما لو أنها تغتال الحملة كاملة وتقمع بعنفها الأصوات التي تحكي حكايتها، فيغدو كل رافض لهذه السياسات في عداد الأرقام.
الشاعر والناشط رفعت العرعير، من الشخصيات البارزة في قطاع غزة، واهتم بجمع حكايات أهالي القطاع وقصص حياتهم ومعاناتهم تحت الحصار والحرب. كان العرعير صاحب مشروع؛ فأسس Gaza Writes Back، وهو كتاب يتضمن قصصا من غزة ترويها مجموعة من الكتاب الغزيين. وعلى الرغم من أنه خسر أقرباء كثيرين في عدوان 2014 على غزة، إلا أنه طور مشروعه الذي يحمل في طياته فلسفة متبلورة عن المقاومة. ولعل في اغتيال إسرائيل له اغتيالاً لمشروع فكري ناضج قادر على خلق نوع من المعايشة لدى القراء للواقع الإنساني الفلسطيني.
وكان العرعير قد أعلن في بداية العدوان الإسرائيلي المتواصل في أكتوبر/تشرين الأول أنه لا يملك إلا قلمه، ولن يتوانى في رميه بوجه الجنود الإسرائيليين ما إذا حاولوا اقتحام منزله. ف
ي العدوان على قطاع غزة، كانت آخر عبارات الشهيد يوسف ماهر: "نحن لسنا أرقاماً، تحمل قدراً كبيراً من المقاومة، وتفكيراً بما هو أبعد من الحاضر".
يموت كثيرون تحت القصف من دون أن نعرف صورهم وأصواتهم أو حتى أسماءهم. لهذا السبب، خرج ناشطون على "إنستغرام" بحساب يحمل اسم "شهداء غزة"، وهو أرشيف رقمي يضم أكثر من 900 صورة ونبذة عن حياة الشهداء وتوصيفاً بسيطاً لشخصياتهم، فيما يوثق موقع "حكايا غزة" قصصاً مؤثرة من القطاع. ولديهم حتى الآن نحو ستين شهادة لمن عاشوا العدوان وربما لمن قضوا تحت القصف.
أسس موقع "حكايا غزة" الصحافي ياسر عاشور، الذي أعلن عبر صفحته الخاصة على "إكس، أن الموقع تأسس بناءً على وصية الشهيد رفعت العرعير، وهي الحفاظ على رواية سرد القصص عن فلسطين وعن غزة وفضح جرائم الاحتلال، في أحيان عديدة تغفل أهمية توثيق الحدث وتفاصيله إلّا حين ينتهي.
الحرب والحصار لم يجعلا من الغزيين كتلةً بشرية واحدة، فحكاياتهم لم توضع بقالب أو تنصهر لتغدو قصة من دون خصوصية، فالألم ذو تنويعات مختلفة. معظم الفلسطينيين هناك يتشاركون يوميات الحصار والشتات ولكن كلٌ على طريقته.
تحاط الشخصية الفلسطينية بهالة من الأسطرة تمنع بعضهم من تصورها في حالة إنسانية، فمن الطبيعي أن يتلوع الفلسطيني من ألم الفراق وأن يرعبه القصف والحرب والتهجير القسري، فالموت لا يمكن أن يصبح حدثاً عابراً أو معتاداً مهما عظمت الأرقام.