إذا كانت كرة القدم لعبة... فما هو الجد؟

18 ديسمبر 2022
مودريتش مواسياً رودريغو بعد هزيمة البرازيل (ماجا هيتجي/Getty)
+ الخط -

مئات الملايين من الأشخاص يتابعون رياضة كرة القدم وأخبارها حول العالم، سواء كانت مباريات على صعيد محلي أو عالمي. وقد يصل هذا الرقم إلى أكثر من مليار شخص أثناء بطولة كأس العالم. حتى الحرب لا يتابع أخبارها هذا الكمّ من البشر، إلا إن كانت عالمية. وآخر حرب عالمية وقعت كانت بعيد سنوات من إطلاق بطولة كأس العالم الأولى (أوروغواي، 1930).

إذن، أمر رياضة كرة القدم جادّ جدّاً. جادّ إلى درجة لن يخلو أي منزل من كرة، وأي حيّ من أولادٍ يتقاذفون الكرة، ويرسمون أرقاماً على تيشرتاتهم قبل أن يكبروا ويطبعوها، وإلى درجة أن أصوات معارك تسمع بين هؤلاء الفتية لأجل الكرة وبسببها، ثم بينهم وبين أهاليهم بشأن تأخر عودتهم إلى المنزل، أو بسبب بقع لا تزول، أو كسر في الساق. جادّ لدرجة أن الشبان هواة الكرة يتركون أي شيء لأجل لعب مباراة ودية، أو حتى لمشاهدة مباراة على التلفزيون. أمر رياضة كرة القدم جادّ لدرجة أن الجماهير تلصق بهذه الرياضة انتماءات وطنية وقومية وعرقية وإثنية ودينية، وتُقسم (الجماهير المحلية على الأقل) بين الفرق بحسب طوائفها الدينية والسياسية، واختلافاتها الثقافية، بدعم وتحريض من الأنظمة في كثير من الأحيان. ويكفي أن يصغي المراقب جيداً إلى هتافات الجماهير في المدرجات، ليسمع ويفهم ويفرز هذه الإشكالات المتعددة.

كل ما يحدث ويحيط بهذه الرياضة لا يظهر إلا جدية، بدءاً بالسعي إلى الانضمام لأصغر نادٍ في حيٍّ في البلدة، والتدريبات الرياضية القاسية في أبرز النوادي العالمية، مهما كانت الظروف المناخية والصحية، مروراً بالأموال الطائلة التي تضخّ في هذه الصناعة، من أجور خيالية للاعبين والمدربين، ومئات الآلاف من العاملين في هذا المجال حول العالم، والعقود الصارمة والاحتكارية مع الشركات المصنعة للأحذية والملابس والرعاة الرسميين، وصولًا لبناء ملاعب ومدرجات وفنادق في الدول التي تنجح في الحصول على فرصة استضافة كأس العالم لكرة القدم.

كرة القدم مسألة جدية جداً للاعبين والجماهير والأنظمة والاقتصاد والمشاعر والأحلام الشخصية والمشاريع الإنمائية، ولمنظمي المراهنات ومراكمي الثروات. وفي كل مونديال، تصبح هذه الرياضة/المسألة جدية أكثر بالتزامن مع جدية تطور التقنيات المستخدمة في المباريات، من تقنية VAR، إلى تقنيات الشرائح الذكية المستخدمة في الكرة التي تحتوي على مستشعرات إلكترونية.

موقف
التحديثات الحية

وعلى الرغم من كل هذه الجدية، فإن رياضة كرة القدم تعتبر "لعبة". لكن أين حصة اللعب في هذه الرياضة؟ هل الركض هو ما يجعلها لعباً، أم وجود لاعبين، أم تقسيم اللاعبين بين فرق وارتداء كل فريق زياً موحداً؟ هل تمرير الكرة لعب، أم تسجيل هدف؟ هل الحزن عند إضاعة الهدف لعب، أم الفرح عند تسجيل هدف؟ كل ما يحصل قبل الهدف بين عشاق كرة القدم، جدّي جدّاً، من حفظ معلومات وتاريخ اللاعبين الكروي والنوادي والمنتخبات وبطولات الدوري والقارات والعالم، ونقاشات حادة واشتباكات وحروب صغيرة في الأزقة وداخل المدرجات وخارجها.

أما بعد الهدف، في اللحظة التي تلي تسجيله، ستظهر اللعبة أخيراً. بالأحرى، ستظهر آثارها التي قد تكون أجمل من الهدف: سنرى لاعبين كباراً يحتفلون كالأطفال رقصاً وركضاً بحركات خاصة بكل منهم أو بكل فريق. سنرى بهجة وحلماً كبيراً تحقق: الكرة التي ركضوا خلفها كيلومترات، دخلت شباك المرمى، من دون أن يتمكن حارسه من ردها. يا له من حلمٍ. فقط بالنظر إلى لاعبي الفريق المسجِّل للهدف وقفزاتهم في الهواء وفوق وعلى بعضهم البعض، وبالنظر إلى أيديهم التي يمررونها بضربة خفيفة على وجوه بعضهم البعض، أو تربيتة على المعدة، وبالنظر إلى الرُكب التي تتزحلق على العشب، سنلتقط اللعبة، وسيتحول مع هذا الهدف المسجَّل جمهور الفريق المسجِّل للهدف إلى لاعب إضافي في هذه اللعبة. وسنتذكر أن كرة القدم لعبة لأن اللعب يفترض أن يبث هذا الكمّ من الفرح والخفة.

أما إذا نظرنا إلى حزن الفريق الذي تلقّى الهدف، فلن نرى لعباً، لأن الحزن مسألة جدية جداً. الهدف وحده يعيدنا لثوانٍ قد تمتد دقائق، قبل أن يُستأنف الركض واللهاث والإصابات المؤلمة، ويُستأنف معه الجدّ.

إضافة إلى الفتية الصغار، الذين يلعبون بما توفر من لاعبين، ليس بالضرورة أن يصلوا لعشرة الذين لن يتعدى حزن خسارتهم في مباراة الحي بعض الشتائم والركلات الغاضبة، ثم سرعان ما يُنسى مع تناول آيس كريم مع الفريق الرابح، سنجد أن الذين يرون في كرة القدم "لعبة" طيلة فترة المباراة، وخلال أي مباراة، هم المتابعون من دون أن يكونوا جمهوراً فعلياً. غضبهم قصير، فرحهم جميل لكن قصير، حزنهم حقيقي لكن قصير. لا يعرفون الكثير من المعلومات عن أي لاعب أو أي فريق. يتابعون المباريات للاستمتاع بلعبة لبعض الوقت، من دون أن يساهموا بجدية هذه الرياضة، ثم ينسون الخسارة أو حتى الربح وهم يتناولون آيس كريم، أو حتى ساندويش شاورما.

المساهمون