عقب مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982، يزور الكاتب الفرنسي جان جينيه (1910 - 1986) موقع المجزرة، يتأمل الموت بأشكاله؛ ركامٌ ودمارٌ وجثث، تحمل بقايا معالمها وحشية القاتل، في المخيم الفلسطيني في لبنان الذي زادته قدم آرئيل شارون تدنيساً. بعد الاجتياح، يشتمّ جينيه رائحة يُطلق عليها "رائحة الموت"، ويذهب، عقب ما رآه من أقبح تجلٍّ لغريزة العدوان، إلى تسجيل شهادته؛ "أربع ساعات في صبرا وشاتيلا".
يحاول جينيه أن يستعيض عن غياب الصورة بعبارات مشحونة بالغضب، وتنضح بالصور، حتى يخال للقارئ أنه رأى ما رآه جينيه في موقع المجزرة، ولكن بعين الشاعر التي تلقي بالاً لأدقّ التفاصيل، كجديلة الطفلة، وشعر العجوز الأبيض المضرج بالدماء.
تغيب الصورة بمعناها المرئي، ولكنها تحضر من خلال طاقتها الشعورية وما تتيحه من إعمالٍ للخيال. حتى تختلط أنا جان جينيه بأنا الضحايا؛ إذ يقول: "منذ انقطعت الطرق، وصمت التلفون، وحرمت من الاتصال بالعالم، أصير فلسطينياً وأكره إسرائيل".
بيد أن شهادة جينيه الحيّة هذه قد لا تنال الانتشار ذاته الذي تناله الصورة، التي لا تحتمل تراجيديّتها أيّ زيف، ولا تخالج الناظر إليها شكوكاً حول مصداقيتها، فمهما تعرضت إلى الطمس والتعتيم، يصعب إخفاؤها إذا ما ترافقت مع قصة فاجعة، لا سيما أن المأساة الفلسطينية راكمت، عبر سنواتها الخمس والسبعين التي مضت، أكواماً من الصور والشهادات، قد تستحيل الإحاطة بها.
أينما حلّ الفلسطيني، سواء في المخيمات العربية أم في الأراضي الفلسطينية، تحضر ثنائية الموت والحياة، بأكثر أشكالها تبايناً. إصرارٌ فلسطينيٌّ على البقاء، يقابله لهاثٌ هستريٌّ إسرائيليّ نحو القتل والإجرام. الثنائية التي تجلّت وضوحاً بعد عملية "طوفان الأقصى" التي بدأت يوم السبت، السابع من أكتوبر/تشرين الأول الحالي.
اليوم تعود صور من ذاكرة النكبة والاجتياح والانتفاضة للظهور مجدداً، بعد عملية "طوفان الأقصى"، وما تبعها من تجدد في حرب الإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون، فها هي صور أيقونة الانتفاضة الثانية (2000)، الطفل محمد الدرة، تظهر مجدداً على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً أن ذكرى استشهاده الثالثة والعشرين سبقت انطلاق عملية "طوفان الأقصى" بأيام معدودة، فصورة الطفل الذي قُتل محتمياً بحضن أبيه في غزّة واحدة من الأدلّة الدامغة على أن المعاناة الفلسطينية ليست مجرّد خسائر مادية وأعداد من القتلى ومساحات دمار فحسب، بقدر ما هي طعنة بالوجود الإنساني أينما كان.
وإلى جانب الذاكرة النازفة، تحضر مقاطع فيديو وصور من داخل غزة، من شأن أصحابها أن يضعوا المتلقي في الخارج في خضمّ ما يعيشونه، كأنهم يخبرونه: هذا ما نعيشه. ماذا لو تعرضت لما نتعرض إليه؟ أو تخيل أنك تعيشه معنا، ما مدى احتمالك هذه الأهوال؟
تصطفّ الأرقام بعضها وراء الآخر. ارتفاع حصيلة الضحايا إلى رقم من أربع خانات، تتغير الأرقام في هذه الخانات، ما يدل على أن العدد في ازدياد. نستمع عبر وسائل الإعلام إلى عبارات لطالما عرفناها، عبارات من قبيل: جرائم الاحتلال، ومجازر مروعة، وتطهير عرقي... هل لا زالت هذه العبارات مع التكرار تحمل الوقع ذاته؟ وهل لا يزال المتلقي يتوقف أمام أعداد الضحايا ويدرك عن طريقها حجم الخراب؟ لكن ماذا عن الأفراد؟ ماذا عن أبسط مفاهيم العيش وأعقدها؟ هل ينقل الخبر ما الذي يعنيه انقطاع المياه والكهرباء وإغلاق المستشفيات أو التهديد بالإخلاء؟
الأعين والآذان تتجه نحو سماع الصرخات القادمة من غزة، وهي كفيلة بإيصال حجم الدمار. بعبارة أخرى، هي كفيلة بلفت النظر إلى أن أحياءً بكاملها باتت ركاماً. هذا الركام الذي يأخذ منحىً آخر عند رؤية صورة لعائلة تحتفل بميلاد أحد أفرادها فوقه.
المحتوى القادم من غزة أحدث انتشاراً كبيراً على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن للعالم الافتراضي هذا سياسته الإقصائية التي تكيل بمكيالين، إذ ضيّق الخناق على المحتوى الفلسطيني، محاولاً كتم صرخات الغضب الآتية من فلسطين، مقابل فرد مساحات للمحتوى الإسرائيلي، من دون تطبيق ذات السياسات الصارمة، فحاز المحتوى الإسرائيلي المحرّض على العنف انتشاراً واسعاً، من دون قيد، الأمر الذي بدا جليّاً منذ أحداث الشيخ جرّاح، في محاولة لجعل أحداث فلسطين تغيب بين الخوارزميات.
يبدو أننا في كل مرة نحتاج قصة فردية لنصدق هول ما يحصل، لذلك انهمرت مقاطع مصورة كالسيل الجارف الذي اكتسح بانتشاره القضايا الأقل أهميّة، فسجل المحتوى الفلسطيني مليارات المشاهدات على "تيك توك"، يروي كل مقطع منها ظرف من ظروف ما يعيشه الفلسطينيون، فهنا أم تتلقى خبر استشهاد ابنها بالتصفيق والزغاريد، وهناك ثكلى ترثي أطفالها. وثمة رجل ينتشل جثة طفله من بين الأنقاض، وطفل يحرقه الدمع على رحيل أخيه وصديقه. كل هذا نراه في هواتفنا المحمولة، كما لو أنّها نافذة تفتح على هذه المعاناة، وشتى أشكال الفقد في العلاقات الإنسانية.
الفرضيات المختلفة هذه قد تضع المشاهد في حالة من التماهي مع المادة المصورة، إذ يرى موقع الحدث، وإن كان من زاوية تصوير الكاميرا، التي هي على الأغلب كاميرا هاتف محمول، ويسمع تعليقات عشوائية بعضها من خارج كادر التصوير.
الكثافة في المقاطع المصورة من غزة على مواقع التواصل الاجتماعي تخلق شعوراً لدى المتلقي الخارجي بأنه مشارك ومعني، وإيهاماً بأن ما يشاهده قد يقع عليه، خصوصاً في حال كان المتلقي مواطناً يعيش في العالم العربي، فإنه لطالما اصطدم مراراً وتكراراً بتبعات مباشرة أو غير مباشرة للقضية الفلسطينية، ما يجعل ذاكرته تستحضر تاريخاً من المآسي التي كان شاهداً عليها. ربما هذا التمثل الذي يتضمن مشاعر انتصار وحزن وغضب لا يخلو من شعور المتلقي بحالة من محاولة التماهي مع ما يشهده الفلسطينيون من مجازر وتهجير.
يتيح العالم الافتراضي للجمهور العربي ومناصري القضية الفلسطينية الحضور افتراضياً في غزة، بينما يحيا بعضهم في بلاده حياة مستقرة وربما هانئة، ولكن ما إن بدأت عملية "طوفان الأقصى" حتى استفاق لدى كثيرين شعور شبيه بشعور جان جينيه في شاتيلا: "صرت فلسطينياً وأكره إسرائيل".