أيومو واتانابي (1/ 2): الرسم والقصص المُصوّرة قادتني إلى سينما التحريك

07 سبتمبر 2022
أيومو واتانابي والممثلة شينوبو أوتاكي (جِنْ ساتو/Getty)
+ الخط -

 

تمرّس أيومو واتانابي (1966)، منذ منتصف ثمانينيات القرن الـ20، في إنجاز مسلسلات تحريك يابانية، أشهرها "دورايمون"، كـ"ستوري بوردر"، ثمّ مسؤول عن التحريك، قبل إخراجه مسلسلات تلفزيونية عدّة، أهمّها "إخوة الفضاء" (2012 ـ 2014).

في فيلمه الطويل "أطفال البحر" (2019)، المُقتبس عن "مانغا" دايسوكي إغاراشي بالعنوان نفسه، مع موسيقى الكبير جو هيسايشي، تناول استعارةً إيكولوجية وروحانية بليغة عن هشاشة الطبيعة، عبر مسار تعلّم فتاةٍ، تُحرم من قضاء عطلة الصّيف، فتجد نفسها في رفقة صبيّ، يتوفّر على قدرات تواصلٍ غريبة مع الكائنات البحرية. الفيلم حقّق نجاحاً نقدياً كبيراً، وتُوّج بجائزة "مانيتشيي" المرموقة لأفضل فيلم تحريك.

في جديده "الحظّ يبتسم للسيّدة نيكوكو" (2021)، المقتبس عن رواية لكاناكو نيشي، ينبري لقصّة أكثر حميمية ونبرة لعوبة، لكنّها لا تقلّ إنسانية واهتماماً بتفاصيل أسلوب وأداء رسوميّين غنيّين ودقيقين، عن مسار تقبّل فتاة نحيلة وخجولة ومنطوية، لشرط أمٍّ تختلف عنها في كلّ شيء، بشخصيتها الغرّة، وإقبالها الشهواني على الحياة، وطاقة لا تنضب في المرح واللعب. انعدام التشابه بين الأم والابنة يخفي ماضياً مُغرقاً في القتامة، يفصح عنه واتانابي بضربة مُعلّم، في "فلاش باك" تراجيدي متأخّر، ومُفعمٍ بالتعاطف والإنسانية، يهزّ بشكل غير متوقّع أحاسيس المُشاهد، مُفسحاً آفاق القراءة على تيمات تقبّل الاختلاف، وعدم الحكم على المظاهر.

نال الفيلم جائزتي الجمهور ولجنة الشباب في الدورة الـ20 (6 ـ 11 مايو/أيار 2021) لـ"المهرجان الدولي لفيلم التحريك (فيكام)" بمكناس، حيث التقت "العربي الجديد" مخرجه، أيومو واتانابي، في حوار (ترجمة إلان نغويان) عن جديده هذا، ونقاشٍ عن مرجعياته الفنية، كما عن "أطفال البحر"، ورؤيته المطبوعة بجنوح فلسفات الشرق الأقصى إلى البساطة، ونظرته عن الاقتباس إلى السينما، وتلقّي سينما التحريك في اليابان، وغيرها.

 

(*) كيف أتيت إلى الرسوم المتحركة؟ هل من خلال الرسم أم السينما؟ في الحالة الأخيرة، هل أفلام التحريك جذبتك في البداية، أم "الحركة الحيّة"؟

قبل كل شيء، الرسم أثار اهتمامي، ثم قادتني ذائقة الرسم إلى القصص المصوّرة، وجاءت أفلام التحريك في الوقت نفسه تقريباً. تأثير هذين الأخيرين مُتقارب جداً، لأنهما يشكّلان سجلاً مُتشابهاً. إلى ذلك، كنتُ مُهتماً بالسينما أيضاً، ومُشاهدة بعض القصص المصوّرة، المُفضّلة عندي، والمُقتبسة إلى سينما التحريك، قادتني إلى هذه الأخيرة.

 

(*) هل لعب الأدب دوراً في تشكيل ذوقك؟ أشعر بتلميحك إلى ذلك، بين فينة وأخرى، في أفلامك، كالإشارة إلى روايات سالينجر؟

إذا قلتُ لك إنّي أحببت الأدب، أكون مُبالِغاً بعض الشيء. طبعاً، قرأتُ أدباً كثيراً للناشئين في مراهقتي، من دون التفكير بالأمر، أو من دون أنْ أدركه حقاً. الروايات البوليسية، وأشياء من هذا القبيل، مادة قراءتي الرئيسية.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

(*) عملتَ كثيراً على مسلسلات التحريك، منذ بداياتك. هل تعتبر أنّ مسلسلات التحريك اليابانية، التي لها تأثيرٌ كبير على الشباب العرب في الماضي، لا تزال تحتفظ بالتأثير نفسه على الأجيال الحالية؟

هناك أمران مؤكّدان: يوجد اليوم عدد أكبر من المسلسلات المُنتجة، مقارنةً مع السابق. هذا يعني أنّ حجم الإنتاج زاد، وبالتالي ينبغي أنْ تكون فرص اكتشاف أو مشاهدة مسلسلات تلفزيونية أكبر، منطقياً. لكنْ، في الوقت نفسه، المسلسلات التي اعتدناها، أو التي كانت تتوجّه إلى الجمهور العريض، بطريقة عامة ومنفتحة للغاية، أصبحت أقل فأقلّ. هذا يعني أنّها أضحت تستهدف تدريجياً جمهوراً نوعياً، أكثر محدوديّةً، وله خصوصية أكبر. بالتالي، للناس اليوم فرصٌ أقلّ لاكتشاف المسلسلات الكبرى، التي يُمكن أنْ تخاطبهم بطريقة منفتحة، كما كان الأمر من قبل. أصبحت السوق منغلقةٌ على نفسها إلى حدٍّ ما.

 

(*) بعد اشتغالك على المسلسلات، جاء أوان تحقيق أفلامك السينمائية الطويلة. عملت بشكل أساسي على الاقتباس. كيف ساعدتك تجربة قراءة القصص المُصوّرة وأدب الناشئين في هذا الصدد؟

احتفاظي، كقارئ ومُتفرّج، بذكريات أشياءٍ طبعتني، تجربةٌ سمحت لي بتخيّل كلّ ما يُمكن أنْ يحسّ به المشاهدون الذين سيتلقّون عملي. كنتُ أحاول تخيّل توقّعاتهم، والمشاعر التي سيستثمرونها في مشروعي. إذاً، حقيقة وجود صلات فنية وأذواق صنعت حساسيتي، والتركيز على الأسباب العميقة وراء هذه الصلات، أتاحا لي التمكّن حقًا، عندما سعيتُ إلى تركيب عناصر وجوانب معيّنة في أفلامي، من إيجاد الطريقة الصحيحة لوصفها، ومشاركتها مع مُشاهديّ. هذا العمل، في الواقع، إعادة اعتبار، أو محاولة ارتقاء إلى مستوى ما أحببته في الماضي، وفي الوقت نفسه اقتسامه بطريقتي الخاصة مع المشاهدين.

 

(*) قورن "أطفال البحر" كثيراً بـ"2001 أوديسا الفضاء" لستانلي كوبريك، فيما يتعلّق بطموحه في أن يكون كونياً، نوعاً ما، أو أنْ يحتضن الكون بأسره، خاصة في مشهد انغماس روكا في المحيط، ثمّ الرقصة البديعة للباليه المائي. أشعرُ بفضولٍ لمعرفة ما إذا كان هذا الجانب موجوداً، بالفعل، في القصّة المُصوّرة، خاصة أنّ رواية "2001 أوديسا الفضاء" كُتبت بالموازاة مع تصوير الفيلم، وهذا دليل على أنّ جانب الرحلة الكونية كُتب منذ البداية، ليُصوَّر لا ليُقرأ.

نعم، تمّت المقارنة، خاصة مع هذا المشهد الذي أطلقتُ عليه تعبير "نقطة الانعطاف الكبير". ينبغي أنْ أؤكّد على أنّ ما تمّ الرّهان عليه في هيكل الفيلم، بشكل عام، موجودٌ فعلاً في القصّة المُصوّرة. لكنّ الأخيرة تحمل أسلوباً رسومياً واقعياً. نتيجة لذلك، فالمقطع موجود في القصّة المُصوّرة، لكنْ وفق تصميم رسومي أقرب بكثير من بقية القصّة، من دون قطع أو تغيير في الأسلوب، أو أيّ غنائية خاصة. هذا مُرتبط طبعاً بالتأثير الواقعي، الذي على المحك، في نيّة المؤلّف.

بالنسبة إليّ، عند الاشتغال على الفيلم، أعتقد أنّ الاحتفاظ بالنمط نفسه للرسوم يحدّ من نطاق تلك اللحظة المهمّة فيه، وتأثيرها. أردتُ شيئاً أعظم وأوسع نطاقاً. وخاصة، أردتُ أنْ يختبر المُشاهد، بطريقة ما، تجربة متزامنة مع ما تحسّ به روكا، الفتاة الصغيرة، عندما تواجه تحدّي الانغماس. لهذا السبب، غيّرتُ أسلوبي. لم أكنْ أدرك إطلاقاً أنّ ذلك يُمكن أنْ يُذكّر بكوبريك. لكنْ، صحيح تماماً أنّ عمل كوبريك أحد المراجع التي غذّتني، وأثّرت فيّ بعمق. لذا، أتفهّم أنّ يعقد الناس مُقارنة مع عمله، ويخبروني بذلك. بالنسبة إليّ، تُشرّفني دائماً مقارنتي بمخرج عظيم مثله. هذا يجعلني دائماً متأثراً جدّاً.

 

(*) أعتقدُ أنّ أحد الأشياء التي تجعل هذا المشهد بارزاً أنّه طويل، إلى درجة أنْ المُشاهد يدخل في علاقة مُخدّرة (سايكيدليك) إلى حدّ ما معه، ما يدلّ على مجازفة حقيقية. هل كان سهلاً اتّخاذُ قرار إدراج المشهد طويلاً بما يكفي؟

كانت لديّ فكرة حول نطاق المشهد، أو إذا شئتَ حجمه، أكثر من عدد الثواني التي ينبغي أنْ يدوم. المقياس الذي أردتُه لهذا المشهد يُشبه عندما تأخذ نَفَساً قبل أنْ تغوص. ما إنْ تغطس، بعد أن تأخذ نَفَساً عميقاً، حتّى تُفكّر في الوقت الذي يُمكنك أنْ تبقى مُنغمساً أثناءه تحت الماء. هذا المقياس أفادني، بشكل فعّال، في معرفة المسافة التي أقطعها. على طول الطريق، ينتاب المُشاهد شكلاً ليس من التشويق بل القلق، فيتساءل: "إلى أيّ مدى سيذهب هذا"، وتغدو لديّ نقطة تعلّقٍ تشحذ انتباه المُشاهد.

 

 

(*) كما الحال في لعبة الغوص مع انقطاع النَفَس.

بالضبط. بعد ذلك، مدَدْتُ المشهد فترة أطول قليلاً من حيث الإيقاع. لكنّك تعلم أنّ هناك أيضاً أشخاصاً يعرفون كيف يقطعون أنفاسهم فترة طويلة جداً. تظلّ المسألة نسبية. حاولتُ الإفادة من ذلك.

 

(*) عموماً يُصنَّف صانعو أفلام التحريك اليابانيين وفقاً لأساليبهم، بمقارنتهم مع الأسماء الكبيرة، مثل ميازاكي وساتوشي كون. لكنّ الميزة الرائعة التي أجدها فيك تكمن في صعوبة تصنيفك. هل ينتابك هذا الطموح، أنْ ترسم مسارك الخاص؟

إذا أخبرتُك أنّي لا أرغب، مُطلقاً، في إعطاء الأولوية للأسئلة ذات الطبيعة الأسلوبية، أكون كاذباً. هذه الأشياء تؤثّر فيّ إلى حدٍّ ما. لكنّ الأكيد أنّ هدفي ليس أبداً الاشتغال على أفلامٍ تنتمي، شكلياً، إلى أسلوب شخص آخر. ما يهمّني محاولة استكشاف كيفية الإحساس بأشياء عادية، وإلى أيّ مدى يُمكن الذهاب في استكشاف الأحاسيس العادية لجمهورٍ عادي.

أنا مُنخرطٌ في هذا الاستكشاف، في الواقع. إنّه شكلٌ من أشكال التجريب، الذي يقودني بشكل فعّال إلى المضي قُدماً، خطوةً بخطوة، وفحص ما يُمكنني القيام به في كلّ مّرة. النتيجة، في النهاية، يُمكن أنْ تحمل تشابهاً عَرَضياً مع هذا الفيلم، أو ذاك المخرج. هذا يُمكن أنْ يحدث، بالطبع، ولنْ أنكره. لكنّه ليس هدفاً مرغوباً فيه. ما يهمّني، من حيث الهدف، محاولة إنتاج أشياء أصلية قليلاً. إنّها ليست حتّى مسألة مكانة أو مرتبة في النهاية، بل طريقة لكي أشبه نفسي. بعد ذلك هناك أعمال رائعة واستثنائية تُحقَّق في العالم، وكذلك طرق التعامل مع مشاريع الأفلام، وأشكال التأليف والاقتباس. بمعنى آخر، ليست إمكانيات الخلق ما نفتقر إليه.

المساهمون