ملاحظةٌ أساسية تُستَخلَص من الحفلة الـ95 لجوائز أوسكار(12 مارس/آذار 2023): تكرار الشُكر إلى الأمّ، التي تصفها الممثلة ميشيل يوه بأنّها، هي، "المرأة الخارقة".
شُكر الأمّ، الذي ترافقه دموع، تأثّراً باللحظة، غير نافرٍ، فلكلّ شاكرٍ سبب أو أكثر، يدفعه إلى قول ذلك في لحظةٍ سينمائية تُعتَبر الأهمّ في صناعة الأفلام. ولكلّ شاكرٍ هدفٌ أو أكثر، ومعرفة هذا يحتاج إلى بحثٍ، يستند إلى علوم النفس والاجتماع والتربية. لكن تكرار شُكر الأمّ يترافق والغياب المطلق لـ"آل فايبلمان" (2022)، لستيفن سبيلبرغ، من لائحة الجوائز، رغم نيله 7 ترشيحات، أبرزها في فئات أفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل سيناريو أصلي. الفيلم يستعيد فتراتٍ من طفولة المخرج ومراهقته، وعلاقته بالسينما، والأهمّ ارتباطه بوالدته. فهل يكون شُكر الأمّ، على ألسنة فائزين/فائزات، نوعاً من تعويض خفيّ وغير واعٍ عن "هزيمة" سبيلبرغ، أمام "كلّ شيءٍ في كلّ مكان دفعةً واحدة (Everything Everywhere All At Once)" للثنائي دانيال كْوان ودانيال شاينرت (المعروف بـ"دانيالز")، المُرشَح لـ11 جائزة، والفائز بـ7 أساسيّة: أفضل فيلم، تُمنح للمنتجين: الثنائي دانيالز وجوناثان وانغ، وأفضل إخراج، وأفضل ممثلة لميشيل يوه، وأفضل ممثل في دور مساعد لكَي هوي كْوان، وأفضل ممثلة في دور مساعد لجيمي لي كورتيس، وأفضل سيناريو أصلي لدانيالز، وأفضل مونتاج لبول روجرز.
المقارنة النقدية بين الفيلمين غير صائبةٍ خارج الجوائز، فلكلّ فيلمٍ خصوصيته وأسلوبه وآليات اشتغالٍ تختلف عن الآخر. غير أنّ تغييب "آل فايبلمان" The Fabelmans كلّياً عن الجوائز، ومنح عمل دانيالز 7 منها، في فئات أساسية، دافعٌ إلى مقارنةٍ، تُختزل بالقول إنّ هناك "ظلماً" بحقّ سبيلبيرغ، وبحقّ جماليات نصّه السينمائيّ، وكشفه خصوصيات عائلية في أزمنة تبدّلات اجتماعية وثقافية وسياسية. شغفه بالسينما غير منتظِرٍ فيلماً كهذا لإبرازه، لكنّ فيلماً كهذا يؤكّد، بلغة الصورة، عمق ذاك الشغف، المترجم في أفلامٍ كثيرة له.
أما فيلم دانيالز، فيُسرف في خيالٍ لقول أشياء واقعية، بأسلوبٍ يصفه البعض بأنّه مملّ وغير نافعٍ، وبأنّه مائلٌ إلى إعلاء شأن التقنيات على البنيتين الدرامية والسردية: امرأة صينية أميركية تخوض تجربة غريبة وغامضة، لإنقاذ ما يُفترض به أنْ يكون مهمّاً وأساسياً في حياتها الواقعية. ورغم أنّ النصّ مهمومٌ بقضايا الفرد ومشاعره وتفكيره، وعلاقته بذاته والآخر، وبمسائل آنيّة مختلفة، فإنّ جمالية "آل فايبلمان"، الموزّعة على تفاصيل اشتغالاته ومسارات شخصياته وفضائه السينمائي، أعمق وأجمل.
مقارنة نقدية كهذه لن تجد حيّزاً لها في خيارات 9579 عضواً في "أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها"، التي تضمّ 11 ألف عضوٍ. هذا يؤدّي إلى تذكيرٍ بنقاشٍ متكرّر، يتناول مفهوم الجوائز وتأثيراتها، خاصة بالنسبة إلى نجوم/نجمات في المهن المختلفة لصناعة الفنّ السابع. لكنّ "أوسكار"، البالغ 95 دورة إلى الآن، يبقى "قبلَة" سينمائيين/سينمائيات كثيرين، لتمكّنه من تثبيت حضور متين في الصناعة، له وللأكاديمية معاً، تلك التي تعاني ترهّلاً وارتباكات، منذ أعوامٍ عدّة، والتي تحتاج إلى تأهيلٍ جذري، لعلّ آليات التصويت على الجوائز ومنحها تكون في أولوياته.
وإذْ يُعتَبر "الحوت (The Whale)"، لدارن آرونوفسكي، إحياءً للممثل براندن فرايزر، بمنحه دوراً مهمّاً له، سيفوز بفضله بجائزة أفضل ممثل (للفيلم جائزة ثانية في فئة أفضل ماكياج لآن ماري برادلي وجودي شين وأدريان مورو، علماً أنّ له ترشيحاً ثالثاً في فئة أفضل ممثلة في دور مساعد لهونغ تشاو)، والإحياء منبثقٌ من السيرة المهنية "العادية" للممثل، التي تعثر في "الحوت" على متنفّسٍ جدّي، يكشف ما لديه من قدرات أدائية قابلة لاستفادة سينمائية منها؛ فإنّ "جنّيات إنشرين" THE BANSHEES OF INISHERIN لمارتن ماكدوناه، سيكون الخاسر الأكبر، لعدم نيله جائزة واحدة من أصل 9 ترشيحات. هذا يستعيد، مرة أخرى، مفهوم الجوائز، والهوّة الكبيرة بين مانحي "أوسكارات" الأكاديمية، والقراءات النقدية، والجماليات السينمائية، لأنّ المانحين/المانحات مشغولون بالتجاريّ الاقتصادي أكثر.
خسارةٌ يُمكن وصفها بالـ"هزيمة"، كالحاصل مع "آل فايبلمان". لكنّها ستكون أقسى، نسبةً إلى الترشيحات. فـ9 ترشيحات له تتساوى و9 أخرى All Quiet on the Western Front، لإدوارد بيرغر، الذي ينال 4 جوائز، أبرزها أفضل فيلم دولي (أفضل ديكور وإدارة فنية لكريستيان أم. غولدبِك وإيرنشتين هيبّر، وأفضل تصوير لجيمس فراند، وأفضل موسيقى لفولكر برتلمان). قسوة المشاهد/الواقع مترافقة ونصٍّ يروي الحكاية بعيون ومشاعر وتأمّلاتٍ ألمانية. والفيلم، إذْ ينفتح على أهوالٍ حاصلةٍ عام 1917، زمن الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، سيكون أحد الأفلام الفائزة التي للمنصّة الأميركية نتفليكس دورٌ في صُنعها، ما يدفع فائزين/فائزات عديدين إلى تقديم الشكر لها، أيضاً.
هذا الفوز يؤكّد، مجدّداً، مكانة المنصّة التي (المكانة) تتّسع في صناعة السينما، رغم تقارير وأقوالٍ تُفيد بأنّ المنصّة متعرّضة، قبل وقتٍ، لخسائر مالية، بسبب تراجع عدد المشتركين/المشتركات فيها. مكانتها السينمائية تزاد قوة، وسطوتها على جهات تمنح جوائز، كما على مهرجاناتٍ (باستثناء "كانّ"، أقلّه إلى الآن) تقوى عاماً تلو آخر. و"مسرح دولبي" (لوس أنجليس) يبقى "منصّةً" للمنصّة، كواجهة تعكس تلك المكانة وذاك التسلّط.
للحرب العالمية الأولى، في سينما الـ"أوسكار"، جانبٌ إنسانيّ يستحقّ أكثر من نقاشٍ نقدي، مفتوح على الثقافة والاجتماع والتربية والوقائع. لكنّ السياسة تحضر أيضاً، عبر فوز "نافالْني"، لدانيال رورّ، بجائزة أفضل وثائقي طويل: ألكسي نافالْني (1976) محامٍ وناشط سياسي، يتعرّض للتسمّم، ويُتّهم فلاديمير بوتين شخصياً بتدبير محاولة الاغتيال هذه، عبر تسميمه. يوصف نافالْني بأنّه "قائد المعارضة الروسية"، والفيلم يروي كيف أنّ كريستو غروزِف (صحافي استقصائي بلغاري) وماريا بفْكايِكايتك (رئيسة قسم التحقيقات في "مؤسّسة نافالْني ضد الفساد") يكشفان تفاصيل مؤامرة تُشير إلى تورّط بوتين.
الملاحظات السابقة غير مختزلةٍ حفلةً كهذه، يختلط فيها الغناء والموسيقى بفقرات كوميدية وتعليقات انتقادية ساخرة. إنّها قراءة أولى، لا أكثر.