استمع إلى الملخص
- إيميه تركت بصمة كبيرة في السينما الفرنسية والعالمية من خلال أدوارها المتميزة وأفلامها الشهيرة، مما جعلها أيقونة في عالم السينما تُظهر تطور الأداء والتعبير الفني.
- حياتها ومسيرتها تُعدان مثالًا على كيفية تجاوز الفنانين للوظيفة الفنية إلى خلق تجارب حياتية غنية تعكس الحياة بكل تعقيداتها وجمالها، مؤكدةً على أهمية الفن في التعبير عن الإنسانية والعواطف.
بُعيد إعلان نبأ رحيل الممثلة الفرنسية أنوك إيميه (18 يونيو/حزيران 2024)، عن 92 عاماً (27 إبريل/نيسان 1932)، يخطر في بال ناقدٍ سؤال يكشف حشرية معرفة لا أكثر: كيف تمضي، من تبلغ عمراً متقدّماً، يوميات عيش، وهي مُدركةٌ أنّ الموتَ ماثلٌ في يومياتها تلك كلّ لحظة؟ أسئلة أخرى تنسلّ منه: أتستعيد ماضياً، فيه أوقاتٌ باهرة من نجومية وإبداع وابتكار أنماط مختلفة لممارسة مهنة؟ أتقف أمام مرآة روحها، لحوار أخير، أو لعتاب إضافي، أو للتمتع بصمتٍ تام من دون أدنى حركةٍ أو شعور أو تفكير؟ أتبتسم ساخرةً من كلّ شيءٍ ومن كلّ أحد، أو ربما من أشياء وأناسٍ، وترى، بعيني وجهها وذاتها، بعض الأجمل في الأشياء والناس، فينشرح قلبٌ ولو لدقائق، ويفرح عقلٌ ولو سريعاً؟
أي عيشٍ ذاك المعلّق بين حياة تُصبح ثقيلةً، أقلّه جسدياً، وبطيئة وربما مملّة؛ وموتٍ سيكون أثقل وأبطأ وانتظاره أكثر مللاً، لشدّة تلاعبه بآخر المتبقي من عمرٍ؟ أنوك إيميه غير وحيدة في هذا، فعاملون وعاملات في السينما الغربية يتجاوزون 90 عاماً، ويستمرّون في محاولة إنجاز فيلمٍ، أو في اختفاءٍ شبه كامل عن مشهدٍ، يملأونه، في أعوام طويلة، باشتغالاتٍ تقبع في أجمل ذاكرة ومتعة، رغم قسوة المُقدَّم في أفلامٍ مفتوحة على خراب دنيا وانهيار حالات، أو محمّلة بهناء وحبّ، وإنْ يكونا مبتورَين أحياناً؟
أمْ أنّ هذا كلّه غير فاعل في أيامٍ مديدة، تمضيها أنوك إيميه، وزملاء وزميلات مهنة، بشكلٍ ستبقى حقيقته مجهولة بالنسبة إلى طارح أسئلةٍ كهذه؟ أمْ أنّ هذا كلّه غير مهمٍّ، فالمهنة تتطلّب كتابةً في رحيلٍ، والكتابة مطالبةٌ بشيءٍ من نقدٍ واستعادة تاريخية، أو بعضها، مطعَّمَين بتحيّة وداع أخير؟
كالعادة بُعيد إعلان نبأ رحيل شخصية سينمائية معروفة، تُستعاد عناوين أفلام كلاسيكية، ستكون الأشهر في سيرتها المهنية، في رثاء "فيسبوكيّ" لأفرادٍ، يكتفون بها لتذكير ذاتي (ربما) بماضٍ يرتبطون، هم وهنّ، به عبر أنوك إيميه وزملاء وزميلات لها في أوروبا وأميركا.
تصفّح لائحة أفلام أنوك إيميه تُعيد المتصفِّح إلى أربعينيات القرن الـ20، إذْ يُذكر أنّ البدايات معقودة على ربعها الأخير، مع أسماء مخرجين، لبعضهم تأثيرٌ في صُنع نتاجٍ سينمائي يحاول قول جديدٍ، كالفرنسي مرسيل كارني (زهرة العمر، 1947). هذا سابقٌ بوقتٍ على فيلمٍ آخر، يعتبره نقّادٌ عديدون "الاكتشاف" الأول لبراعة أداء وتعبيرٍ: "لولا" (1961) لجاك ديمي، واسم هذا المخرج الفرنسي وحده كافٍ لتبيان معنى أنْ يحصل اكتشافها السينمائي بفضل فيلمٍ له.
فرنسي آخر يُفعِّل حضورها التمثيلي في تلك الفترة، يُدعى كلود لولوش، المتعاونة معه في ثلاثية "رجل وامرأة"، التي تبدأ عام 1966، وأول الثلاثية هذه فائز بـ"السعفة الذهبية" للدورة الـ19 (5 ـ 20 مايو/أيار 1966) لمهرجان كانّ، قبل عامين اثنين من "أيار 68" الفرنسية (حركة الطلاّب والمزارعين المطالبة بإصلاحات جذرية). لاحقاً، تشارك إيميه في الفيلمين الآخرين عامي 1986 (عشرون عاماً بالفعل) و2019 (أجمل أعوام حياةٍ). إنْ تُعنى الثلاثية بالحبّ، بما هي نواة درامية لفعلٍ بصري يعاين أحوال فردين ومشاعرهما وتأمّلاتهما واختباراتهما في الحياة والعلاقات والاجتماع، فإنّ الأول فيها يبقى الأجمل والأقدر على إثارة متعة المشاركة في معاينة تلك الحكاية، التي تُروى بأداء بديع للممثلين إيميه وجان ـ لوي ترانتينيان، الجميلين شكلاً، والساحِرَين حضوراً، والباهِرَين أداءً يُغيِّب متطلباته المهنيّة البحتة بقدر ما تحتاج إليه شخصيتا آن غوتييه وجان ـ لوي دُورُك.
جمال الشكل أساسيّ في صناعة فنّ بصري، إذْ له (الجمال) طاقة جذبٍ، تتضاعف قوّتها مع جمال فعلٍ مهنيّ، يُخفِّف من ثقل الوظيفة لصالح الانغماس الأعمق في حاجة الشخصية إلى ما يُعينها على عيشٍ وتعبيرٍ، يبتعدان عن افتعال الصُنعة. مع الثنائي إيميه وترانتينيان، يُصبح جمال الشكل، بسحره وبريقه، أبرع في تحرير المهنة من وظيفتها، فجمال الفعل التمثيلي إضافة نوعيّة تمنح قصة الحبّ تلك إمكانية سرد فصولها، "كأيّ قصة حبّ موجودة في الحياة لا كتلك الموجودة في السينما"، كما يقول لولوش (مقالة للناقد صامويل بلومنفيلد عن ترانتينيان، "ربّان أحلامه" في "رجل وامرأة" تحديداً، "لوموند"، 25 يوليو/تموز 2022).
الجمال نفسه يُرافق امرأةً، تجعل مهنة التمثيل تمريناً مُساعِداً على فهم عيش الحياة خارج البلاتوهات، والعكس لن يكون خاطئاً، ربما. فأمام الكاميرا، ستكون أنوك إيميه دائماً ممثلةً تُتقن كيف تعرّي الشخصية من أحمال وظيفةٍ (الوظيفة نفسها محتاجة إلى براعة مهنية أيضاً، وإنْ من دون ابتكار وتقدّم دائماً إلى الأفضل والأجمل)، تبقى (الوظيفة) ضرورة حياتية.
جمال شكل وأداء، وسحر شخصية امرأة وممثلة، متلازمان في كيانها البشري، وأفلامٌ لها تؤكّد ذلك مراراً. أيكون "8 ونصف" (1963)، للإيطالي فيديريكو فيلّيني، مثلا أبرز؟ ماذا عن السابق عليه، "سدوم وعمورة" (1962)، للأميركي روبرت ألدريتش؟ أو "الموعد" (1969)، للأميركي أيضاً سيدني لوميت؟
كثيرون يصنعون، لها ومعها، أفلاماً يصعب حصرها في مقالة. لولوش وديمي يُخرجان لها أكثر من فيلم. صناعات سينمائية في أوروبا (فرنسا وإيطاليا مثلاً) والولايات المتحدّة الأميركية تمنحها أدواراً مؤثّرة في وعي ومعرفة وانفعالٍ، وبعضها راسخٌ في التاريخ الحديث للفنّ السابع. هذا غير عابر. مهنة التمثيل مفتوحة على تجارب، فإمّا تبقى مجرّد مهنة، وهناك من يُتقنها حدّ براعة الوظيفة، وإمّا تخرج من الوظيفة وبراعتها إلى انمحاء كلّ فرق بين بشريّ وشخصية سينمائية.
ومع أنّ كلاماً كهذا مُكرّر في رحيل قلّة، تحرّض على كتابةٍ كهذه، يصعب التغاضي عن ثنائية، لعلّ أحد طرفيها يُكمِل الطرف الآخر: وظيفة التمثيل حاجة مهنيّة، يُمكن للممثل والممثلة اختراع جديد في ممارستها، أو عدم اختراع شيء، فيكتفيان بالتزام مفرداتها؛ والتمثيل خارج الوظيفة، أي التمرين على عيش حيوات كثيرة، بتقديم ما تتطلّبه كلّ حياةٍ، بكامل أوصافها ومشاعرها ومشاغلها وتأمّلاتها وأفكارها وانفعالاتها.