أندريه ريو... بائع الأنغام والأحلام

24 يناير 2021
+ الخط -

"أنا مَلك الفالس". بهذه الجملة، ختم أندريه ريو حديثه إلى ستيب فاسن، مراسلة قناة الجزيرة الناطقة بالإنكليزية، خلال مقابلة أجرتها معه ضمن برنامج "حديث إلى الجزيرة" الشهر الماضي. وريو الآن هو الموسيقى الكلاسيكي الأشهر على كل لسان. وفي الوقت نفسه، هو الاسم الذي إن تناهى ذكره إلى سمع أي موسيقي كلاسيكي، أكان مؤلفاً أم مؤدياً محترفاً، أصابه شيء من الامتعاض.

لقد زارته السيدة فاسن في ماستريخت، المدينة الهولندية التي وُلد ونشأ فيها. في داره، التي بدت أشبه بقصر صغير يعتليه برج متوّج على الطراز الباروكي، تتوسطه باحة ذات أرض أثرية حجرية، وتتصدّره قاعة زجاجية تؤوي الزرع والأزهار؛ دار فارهة وشاعرية، تبدو بمثابة حلم كل فنان.  

أندريه ريو (1949) يعزف على الكمان عادةً، مديراً من خلفه فرقة موسيقية باستطاعة شبه سيمفونية، تبدأ بالوتريات وتنتهي بالطبل والآلات النفخية والنحاسية. مادته السمعية الأساسية هي موسيقى الفالس بشكلها الذي راج في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وذلك بفضل المؤلف وعازف الكمان - الذي يُجسّد ريو في الظاهر استحضاراً له واستعادةً لإرثه - النمساوي يوهان شتراوس.

والفالس بالأصل شكل إيقاعي راقص بتألف من ثلاث خطوات، الأولى هي الأساس والمرتكز، أما الثانية والثالثة فتثبان بالراقص يميناً ورجوعاً. تُعد الفالس واحدة من أكثر رقصات أوروبا أصالةً وترميزاً لتراثها الثقافي. يؤديها زوج من امرأة ورجل. قد يعود تاريخها إلى القرن السادس عشر. جذورها ريفية تمتد في جنوب وسط أوروبا عبر إقليم بافاريا الألماني والأراضي النمساوية التي انضوت جميعها من القرن السابع عشر إلى العشرين، تحت ما عُرف بالإمبراطورية النمسا - هنغارية.

أوجه التشابه بين تجربتيّ شتراوس وريو تتعدى الشكل والمادة الموسيقية، وصولاً إلى النمط التجاري Business model والسياقات الاجتماعية والتاريخية المُنتجة لكلٍّ منهما. لعل الفرق الجوهري الوحيد، يكمن في أن يوهان شتراوس كان مؤلفَ معظم بضاعته الموسيقية، بينما يكتفي ريو بالعزف والإدارة الفنية والمالية. علاوة على أن شتراوس كان موسيقياً بارعاً وموزّعاً فذاً، ذا ملكة لحنية فريدة بشهادة جهابذة عصره الأكثر جدّية، كالمؤلف الألماني يوهان برامز. أما ريو، في أحسن الأحوال، فلا تجد من بين النخبة الموسيقية حول العالم من يأخذه حقاً على محمل الجد.

ازدهرت مؤسسة شتراوس الفنية كردّ فعل رجعي إزاء فترة تحول اقتصادي واجتماعي طرأ على الغرب، إثر تسارع في حركة التصنيع ونمو في اقتصاديات المدن. أدى ذلك إلى توسّع الطبقة الوسطى الليبرالية على حساب البرجوازية التقليدية. تحوّلٌ بث في الأجواء الحنين إلى الماضي، وحفّز الشهوة لاستعادة القيم والتقاليد المحافظة ومحاكاة معالم الحياة الأرستقراطية، ممثلةً في حلقات رقص الفالس. وذلك في مواجهة مظاهر الحداثة من تحرر وفردانية وغربة اجتماعية أخذت تعم المدن الكوزموبوليتية الكبرى.

الجماهيرية التي يحققها أندريه ريو، تعتمد هي الأخرى على الاستثمار في الحنين إلى ماضٍ كان لأوروبا والغرب في أمده لون مختلف وهوية أشد تجانساً وصلابة. فأوروبا اليوم، وحتى أميركا الشمالية، رغم بقاء البوتقة العرقية والثقافية منطلقاً نظرياً على الأقل، وبموجب تحولات كبرى أحدثتها الديموغرافيا والهجرة، لم تعد على ذات القدر من بياض البشرة، كما كانت في القرن العشرين. أضف على ذلك، أن الركود الذي زلزل اقتصادياتها سنة 2008، قد أفضى إلى أزمة انتماء حادة، خصوصاً لدى الطبقة الوسطى وما دونها من البيض غير المتعلمين.

قد أصابت الصحافية المحاورة حين أفصحت لـ "المايسترو" بأنها لو تخيّلت لموسيقاه ولفرقته التي تؤديها لوناً، لكان الأبيض، في تلميح يُبطِن نقداً، إلى واقع أن كلاً من العازفين والضيوف المشاركين، من مغنين ومؤدين، بالإضافة إلى جمهور المستمعين، هم في غالبيتهم الساحقة من البيض، وإن عمد ريو في مناسبات معينة، سدّاً للذرائع أو ركوباً للموجة التقدمية السائدة، إلى استضافة بعض الفنانين السود، كما حدث خلال جولته في جنوب أفريقيا سنة 2012. لا يعدو تلوينه خشبة المسرح هنا مجرد كونه طارئا تزيينيا لا يدخل في صلب المؤسسة ومواردها الإنتاجية، ولا سيما وأن الموسيقى التي تحرص على تقديمها في المحصلة هي أوروبية خالصة.

لعل ما غاب عن السيدة فاسن أن ما يقوم ريو ببيعه إلى جمهوره ليس موسيقى بيضاء، وإنما حلم أبيض. ليس تسليع الموسيقى الكلاسيكية، التي عادةً ما يُثيره النقاد عند حديثهم عن ظاهرة ريو، هو ما يتم حقيقةً من خلال تلك العروض الفانتازية التي تجري بالتزامن على عدّة منصات متجاورة متساوية الإبهار والإشعاع، إنما هو تسليعٌ للحلم بالعودة إلى الماضي، أو باستعادة ماضٍ سطّره الامتياز الحضاري والتسيّد الاستعماري والثقافي، لفئة عرقية يبدو جزءٌ منها اليوم كما لو أنه يتمنى أن تقف عجلة التاريخ، أو تعود به إلى مخيال الوراء مخافة مآل التغيير.

الذي يتناهى لوهلة، أنه شعبنةٌ للونٍ موسيقي بغية الاقتراب به إلى "العامة"، فيما ظل تذوقه حكراً على الخاصة المثقفة من أبناء الطبقة الوسطى، ليس في العمق إلا شعبوية ثقافية تهدف إلى الجماهيرية عبر استمالة موسيقية للقلق الهويّاتي المستشري، واستثمار في نزعة التوق إلى الانتماء والبحث عن نشوة الماضي من قبل شريحة من المجتمع، باتت تشعر بالاغتراب والرهبة إزاء تبعات العولمة أكثر من أي يوم مضى. شعبوية لا يدفعها في الواقع سوى هاجس النجاح وجني الأرباح.

المقطوعات الموسيقية التي تُعزف لا تتعدى كونها أشرطة من مادة أشبه بحرير صناعي تُزيّن منتجاً ترفيهياً بصرياً، لا وزن له ولا عمق فيه؛ مجرد ألحان مصاحبة لمشهدية استعراضية متخمة وكاريكاتورية، تختزل ما طُوِّب ذات مرة تراثاً عالمياً إلى فلكلور محلي. الغرض منها ليس الاستماع وإنما الاستمتاع، أما قيمتها فليست بما تحمل من مشاعر أو أفكار، وإنما بما تُمثًل ومن تُمثّل.

لكن كيف يتسنّى للسامع، قد يسأل قارئ، أن يُحسن التمييز بين الغث والسمين في عالم الموسيقى الكلاسيكية؟ إذ إن المنتج السمعي الذي يُقدّمه أمثال ريو قد لا تشوبه شائبة من الناحية التقنية، تنفيذيّاً على الأقل، وبما يتناسب مع بساطة المقطوعات التي يؤديها، سواءً بنفسه على الكمان، أو برفقة الأوركسترا.

في الحقيقة، إن تذوق الموسيقى ليس بالشأن الهيّن حتى بالنسبة إلى بعض محترفيها والمشتغلين بها. هي فنٌ في منتهى المجازية. وعليه، تغلب فيه لامعيارية الحكم التي تتعلق بالمزاج والعاطفة وتتأثر بالتربية والبيئة الاجتماعية، إضافةً إلى مدى الإلمام بعالم الأنغام ونُسجها الهارمونية، إن تعددت الأصوات فيها، ونواظمها الإيقاعية. والأهم من ذلك، النسق البنيوي والشكلي والسردي في أحيانٍ كثيرة، الذي تخطّه وتطوره وتؤسس له وتتفاعل ضمنه.

تطوير الذائقة الموسيقية، إذن، سواءً أكان لدى الفرد أم المجتمع، يكمن في الدربة على الاستماع وسعة الاطلاع على مختلف الموسيقات، من مختلف العصور ومن جميع أنحاء العالم. وأما الموسيقى الكلاسيكية، على وجه الخصوص، فتنبغي الإحاطة الثقافية والتاريخية بالمادة السمعية. يتم ذلك عن طريق تطوير ذائقة مقارنة تتناول الميادين الإبداعية الأخرى، كالأدب والمسرح والسينما والفنون التشكيلية. بعبارة أخرى؛ ربما البدء بأندريه ريو، ومن ثم تجاوزه.

المساهمون