أنتوني هوبكنز ممثلٌ ساحرٌ

01 مايو 2024
أنتوني هوبكنز: بطلٌ بألف وجه (أرتورو هولمز/FilmMagic)
+ الخط -
اظهر الملخص
- النقاد يواجهون صعوبة في اختيار الأفلام للمشاهدة والتحليل من بين العدد الكبير المتاح، ويمكنهم استخدام الممثلين المفضلين كمعيار لاختياراتهم.
- أنتوني هوبكنز يبرز بأدائه المتنوع والعميق، قادرًا على تجسيد شخصيات مختلفة بمهارة عالية، من الشخصيات الخيرة إلى الشريرة، مستخدمًا إيماءات ومهارات غير لفظية.
- هوبكنز يعتبر مثالًا للممثل الذي يزداد تألقًا مع الزمن، مقدمًا أدوارًا معقدة تجذب الجمهور وتؤكد على قدرته الفريدة في التمثيل، مما يجعله محورًا للتقدير في السينما.

 

كيف يختار الناقد فيلماً لمشاهدته أمام فيض أفلام المنصّات؟ ثم كيف ينتقي فيلماً يستحقّ الكتابة عنه؟

هذه عملية اختيار فنية مرهقة. يمرّ يومٌ أو شهر كامل في استعراض الأفلام، من دون اكتشاف فيلمٍ حقيقي. في هذه الحالة، يُمكن تتبّع ممثّل مفضَّل، ليكون دليلاً للاختيار، حين تتوفّر أفلامه في نصف قرن، خاصة تلك المعلومة للمُشاهدين، فيتمكّنون من فحص ادّعاءات الناقد في كتاباته عنها.

ظهر أنتوني هوبكنز ساحراً وهو يحاول إقناع سائح ديني أميركي بقدراته الخارقة، في Rite لمايكل هافستروم (2011). سائح فرويدي شكّاك، يحجّ إلى الفاتيكان ليكتشف ضرورة الله. حين يتأكّد من وجود الجنّ، يُصدّق. يستحيل أنْ يكون الجنّ موجوداً من دون الله. كما ظهر كاهناً دوغمائياً على حافة النازية في "البابوان" (2019)، لفرناندو ميريليس. يجري التفاوض في كنيسةٍ لها جداريات ولوحات من السرد الديني، تخبر عن عظمة النهضة البصرية الإيطالية في القرن الـ15.

يملك هوبكنز كاريزما فنية وسياسية. هذا أثبته بتأديته دور ملازم في البحرية، يقود سفينة صغيرة إلى العالم الجديد، في The Bounty لروجر دونالدسون (1984): سفينة تتحمّل العواصف والجوع بفضل الانضباط. يُمكن لمعرفة الزعيم وخبرته أنْ تنقذا زورقاً يُطبّق فيه القانون. رغم السيطرة على الطبيعة، يُمكن للأهواء البشرية في الزعامة والفوضى وحكم الرعاع أنْ تدمّر سفينة كبيرة، فيها موارد هائلة. كلّ هذا يتحطّم بأيدي أصحابه، وهم يتأمّلونه. لا شيء تجريديّ. السرد حسّي ومجسّم. الأهواء والظلم تجلب الخراب. القانون يصنع الخير، والغريزة تصنع الشر. هكذا تتسلّل السياسة إلى أداء الممثل، وعروق السيناريو تضخّ العمق في الفيلم، باعتباره سينما ودرساً في القيادة.

هوبكنز مجرمٌ عنيف في "صمت الحملان" (1992)، لجوناثان ديم. صار مجرماً أنيقاً وخبيراً في أدب القرن الـ13، في "هانيبال" (2001)، لريدلي سكوت. مجرمٌ جمع بين المعرفة العميقة والذوق الفني الرفيع. يقارن بين خيانة يهوذا وإعدام زعيم من سلالة الضابط الذي يطارد المجرم. مجرم يشتهي ويرسم الضابطة التي تطارده. يرسم ساقها، ويكتب لها عن الرسّام القتيل كرافاجيو. يُعبّر عن تقديره لجمال النساء، بدءاً من القدمين.

هناك مواجهة بين الطالبة البوليسية، ذات القدمين الجميلتين، والمجرم السجين والمغرور. كأنّ القضبان التي تفصل بينهما غير موجودة. يتشمّمها عن بُعد، فينكشف له ضعفها. تشمَّمها وفحصها وحلّلها، وأبرز أصلها المتواضع. خَمّن من رائحتها أنّها ابنة عامل مناجم. هكذا تنكشف المحقّقة الشابة الطموحة في عالم مجانين قتلة، ذوي نزعة كلبية. لدى هانيبال طبع خفاشي. يحبّ مصّ الدماء. له أصل نبيل في جينالوجيا الحكاية، فأصله أمير أرستقراطي يرجع إلى الكونت دراكولا.

 

 

نجح الفيلم. يكشف نجاحُ أيّ فيلم طبيعة الجمهور أكثر مما يكشف مواهبَ صانعيه. ما مصدر الإعجاب؟ هذا بطل وغد بألف وجه. يحبّ المتفرجون حكايات الأوغاد الغامضين، الذين تتكشّف شخصياتهم تدريجياً. هكذا بُنِيَت الشخصية، بربطها بأهواء العقل الجمْعي لدى المتفرجين. إنّه شرّ بشري متعمّد. يقطن المجرم المثقف الأرستقراطي في "البندقية" العريقة. يكره المدن حديثة النعمة، كلاس فيغاس. رجل أنيق يعشق الفن، ويحاضر عن مؤسّس الأدب الإيطالي دانتي أليغييري. الممثل مقنع في هذا الفيلم بشكل رهيب. يشعر المشاهد أنّ من يتكلم أنتوني هوبكنز الرجل لا الممثل.

مجرم يقتبس لوحات وليام بليك. هذا تراث فني مفيد لتوفير مفتاح الشخصية، التي يؤدّيها الممثل بعد فهمها وتحسّس وسائلها في التعبير عن نفسها. هوبكنز ممثل يستبعد كلّ السطحيّ في الدور، فيتعمّق فيه عبر الإيماءات والمهارات غير اللفظية. التمثيل بالجسد لا باللسان.

تتكرّر في أفلامه آراءه في الدور الذي يعشقه. دور المثقف ناقد الفن. في Shadowlands لريتشارد أتنبوروه (1994)، أدب إنكليزي يعتقد روّاده أنّ كلّ سكان أميركا رعاة بقر. يجري جدلٌ بين الناقد الخبير والمعجَبة: ما مصدر الإلهام؟ المطالعة أم التجربة أم الألم؟ هل الألم هدف أم وسيلة للإبداع؟ يجيب بوضوح. هناك فوضى في غرفة الشاعر. كتبه مبعثرة وحياته أيضاً. لكنْ، لا مشكلة طالما أنْ لا فوضى في جمجمته، لأنّه يعرف الأسئلة الأساسية التي يتعيّن عليه الإجابة عنها. تكتشف المعجَبة عجز الأدباء عن التعبير عن الحبّ حين يقعون فيه. تقع المصائب على المثقف العاشق قبل الأوان. إنّها التراجيديا التي لا يستحقّها.

يؤدّي هوبكنز دور مثقف وأستاذ جامعي وعاشق للفن التشكيلي في أفلامٍ كثيرة. هكذا تقع الجريمة على خلفية فنية تشكيلية في "هانيبال" و"التنين الأحمر" (2002)، لبريت راتنر. اللوحات والوجه المشوّه موضوع تخييلي رئيسي للكاميرا. يقول المجرم (هوبكنز) في "التنين الأحمر": "من دون مخيلة، نصبح كجميع هؤلاء المغفلين البؤساء حولنا".

أين تكمن قوّة هذا الممثل: في فمه أم في جسده؟ تكمن قوّته الأدائية في تناسق الاثنين، وفي نظراته وطريقة نطقه العدوانية، وحركات الوجه التي تزيد معنى الكلمات التي تنطق. تعطي النظرة الباردة قوّة نووية للكلمات العدوانية. يتأكّد هذا في سلوكه في "هانيبال". عندما يحلم المتفرّج بهذا، يكون معجَباً ببطل غاية في التحضّر، وعيبه أنّه دموي.

ظهر هوبكنز قاتلاً محترفاً، وآكِل لحوم بشر، ورئيساً أميركياً، ومخرجاً إنكليزياً، ومشعوذاً إغريقيا، وبابا ألمانياً. مستقبلاً، سيكون محلّلاً نفسياً نمساوياً. في العام المقبل، سيظهر في أفلامٍ أكثر من تلك التي ظهر فيها في العام السابق. هذا منجز فني هائل بالنسبة إلى ممثل يبلغ 87 عاماً. ممثل قادر على التحوّل والتجوّل في سجل درجات وتلاوين نفسيات مختلفة، تبعاً للتطوّر الدرامي. ممثل كلّما زاد عمره، زادت جاذبيته. تتعدّد أدواره، ويحافظ على قوّة أدائه.

الملاحظ أنّه قويّ في أدوار الشرّ، فإنْ دخل دورَ الخير ضَعُف قليلاً.

المساهمون