أما وقد حاز فيلم "إيفريثينغ إيفريوير أول آت وانس" معظم جوائز الأكاديمية في دورتها الخامسة والتسعين، فإنّني أعلن وقوفي ضد أوسكار، وعدم فهمي لانحيازات الأكاديمية وذائقتها الفنية، إلى حد التشكيك بهذه الذائقة والجزم بوجود مؤامرة عالمية ماسونية تهدف لتخريب الذوق والجمال والقيم الأخلاقية، والذي يفترض أنّها البقية الباقية ممّا نتمسك به في عالم متداع تقترب نهايته كما تصوره لنا الأفلام.
طبعاً هذه المقدمة هي المبالغة القصوى والعبثية والساخرة لخيبة أمل كبيرة أصابت الكثيرين من نتائج حفل أوسكار وغياب أفلام متميزة عن منصة التتويج.
خسرت أفلام مهمة تعتمد قصصاً إنسانية بسيطة وتشتغل على عاطفة الحب والعزلة والوحدة وقيم العائلة والصداقة، وأبرزها فيلم "ذا بانشيز أوف إينيشيرين" للمخرج مارتن ماكدونا، الذي لم يحصل على أي جائزة من أصل 9 ترشيحات. وهو فيلم يروي قصة صديقين في قرية أيرلندية نائية يصحو أحدهما على رغبة الآخر بالافتراق عنه وفكّ عرى الصداقة، وكل ذلك على خلفية أصوات مدفعية ورصاص ومعارك لا نشاهدها مباشرة هي وقائع الحرب الأهلية عام 1922.
كذلك، غاب عن التتويج فيلم "ذا فيبلمانز" للمخرج ستيفن سبيلبرغ الذي يروي جانباً من طفولته ومراهقته، ويضيء على دور الكاميرا والسينما في كشف الغوامض من المشاعر والخفايا من الأسرار في حياة العائلة اليهودية من الطبقة الوسطى، حيث يتعرّض للتنمر في المدرسة بسبب ذلك، فيلجأ إلى إشراك مضطهديه في أفلامه المدرسية ومنحهم أدوار البطولة ليتخلص من عدوانهم، محوّلاً السينما إلى أداة خلاص ونجاة.
اكتفت الأكاديمية بجوائز ربّما توصف بالترضية لأفلام مهمة، مثل "تار" للمخرج تود فيلد، والذي يروي قصة حياة قائدة الأوركسترا والملحنة ليديا تار، والتي تظن أنّها شخصية حقيقية لتكتشف بعد البحث أنها متخيلة، وقد أدت الدور كيت بلانشيت بشكل مبدع.
وهو الأمر نفسه الذي حصل مع فيلم "إلفيس" عن حياة المغني الأميركي الراحل إلفيس بريسلي. وأخرج الفيلم باز لورمان، وأدى دور إلفيس باقتدار أوستن باتلر، فيما لعب دور الجنرال الممثل المبدع توم هانكس.
يستحق فيلم "إلفيس" كلّ الاهتمام والإعجاب، فالقصة التي تتناول حياة المغني الأسطورة تراجيدية بامتياز فهو "الأبيض" قد تربى في أحياء "السود" في زمن الفصل العنصري ونهوض حركات مقاومتها، ومن ضمنها موسيقى الجاز. وفي مرحلة صعوده اضطر إلى مواجهة محاكم التفتيش الثقافية الأميركية، حيث كانت تسود رقابة بيضاء رجعية، اتهمته بتخريب الذائقة والميوعة، ولاسيما بحركاته الراقصة المعروفة. رافق قصة صعوده وعمل عليه بإتقان، محتال كبير يدعى بالجنرال، ونتيجة احتيال الجنرال والشبكة التي رسمها حول فتاه، ومنها إدمانه للمخدرات، مات إلفيس وعمره 42 سنة بجرعة زائدة من المخدرات. ولاحقاً اكتشف أنّ الجنرال ليس بجنرال وأنّه مهاجر من هولندا مع إشارات ارتباط بالنازية ومن دون أوراق ثبوتية، كما اكتشف أنّه تلاعب مالياً واحتال على موكله إلفيس بريسلي وأهدر ثروة كبيرة على موائد القمار.
وكذلك حصل الأمر نفسه مع فيلم "أفاتار 2" للمخرج جميس كاميرون الذي غاب عن حفل أوسكار احتجاجاً على عدم ترشيح فيلمه، الذي كلّف ما يقارب نصف مليار دولار وحقّق حتّى الآن إيرادات بملياري دولار، لجائزة أفضل فيلم.
إذاً غابت هذه الأفلام التي تعتمد على انغماسنا في التعاطف مع شخصيات تشبهنا وتعاني كما نعاني، لصالح فانتازيا الأكوان المتعددة، حيث الخلاص بالتواصل مع عوالم مجهولة معقدة وعصية على الفهم.
هذه ملاحظاتي على الأفلام التي كانت مرشّحة لنيل جوائز أوسكار هذا العام، وقد شاهدتها جميعاً باستثناء فليمين من الأفلام الوثائقية التي سأتطرّق إليها في المقال القادم.
من الأشياء القليلة التي أسعدتني في حفل هذا العام، كان خلال تتويج الممثل كي هوي كوان عن دوره في فيلم "إيفريثينغ إيفريوير أول آت وانس" وتحدّثه عن حلمه الذي تحقق، وكيف انتقل من فيتنام إلى هونغ كونغ إلى الولايات المتّحدة، واصفاً قصّة لجوئه وعيشه في المخيمات بأنها مثل القصص التي تحدث في الأفلام فقط. ولعلّ الأمر نفسه سيتكرّر في المستقبل مع شباب سوريين لجأوا إلى مشارق الدنيا ومغاربها.