"ألف شهر" بعد 20 عاماً: تكثيف شاعري يتحسّس السلطوية

10 مايو 2023
فؤاد لبْيض في "ألف شهر": مقاربة مُتجذّرة في الحداثة السينمائية (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

قبل عقدين، فَتَح مهرجان "كانّ" السينمائي أبوابه أمام مخرج شاب (36 عاماً آنذاك)، ينتمي إلى الجيل الثالث من السينمائيين المغاربة، يدعى فوزي بن السعيدي (1967)، لديه تجربة قصيرة في التمثيل في السينما والمسرح. حينها، لم تكن تعرفه سوى ثلّة من المتخصّصين، بفضل 3 أفلام قصيرة حقّقها تباعاً: "الحافة" (1999)، و"الحيط...الحيط" (2000)، و"خيط الشتا" (2001)، تركت انطباعاً جيّداً، وتُوِّجت في مهرجانات دولية مرموقة. ثم قدّم فيلمه الطويل الأول، "ألف شهر"، في الدورة الـ56 (11 ـ 25 مايو/ أيار 2003) لمهرجان "كانّ"، الفائز بجائزتي "النظرة الأولى" ولجنة الشباب في "نظرة ما".

عنوان الفيلم يشي، في دلالته، بفعل التكثيف الذي يُشكّل ـ إلى جانب التجذّر في سينما اللقطة (بدل سينما المشهد)، ومرجعية الـ"سينفيليا" التي تولي اهتماماً كبيراً لتناغم الشكل مع الموضوع ـ دعائم المقترح الجمالي لسينمائيٍّ غَدَا، بفضل الأفلام الطويلة الـ5 التي أخرجها مذّاك، أحد أهم أصوات الحداثة في السينما المغربية. تشاء الصدفة أنْ يعود بن السعيدي، بفيلمه الطويل الـ6 "الثلث الخالي"، إلى "كانّ" عبر "نصف شهر المخرجين"، بعد 20 عاماً، في دورته الـ76 (16 ـ 27 مايو/ أيار 2023).

 

مقترح جمالي

المغرب، مطلع ثمانينيات القرن الـ20. في سياق حرج يطبعه توالي سنوات الجفاف، ومناخ سياسي يتّسم باختلال الثقة بين الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، إثر اشتداد السلطوية وغلاء المعيشة، ما أدّى إلى اندلاع اضطرابات اجتماعية في المدن، تستقبل قرية صغيرة، في قلب جبال الأطلس الكبير، شهر رمضان. منذ المشهد الأول، الذي يلتقط طقس المراقبة الجماعية لهلال رمضان من فوق التلة، يعزف الفيلم نغمة مقترح جمالي، يعتمد على اللقطة الطويلة والعامة، وجمالية الحشود، علاوة على مفهوم النظرة، الذي ينطوي على ترك أشياء محورية خارج حقل القصّة والكادر، لتترسّخ بصورة أعمق وأكثر وقعاً على مخيّلة المُشاهد.

رغم كوراليةٍ، نادرة في المشهد السينمائي المغربي، تقتفي شخصيات ثانوية عدّة، يُبئّر الحكي بشكل خاص على المهدي (فؤاد لبْيض). صبيّ (7 أعوام)، يعيش مع أمه أمينة (نزهة رحيل)، وجدّه أحمد (محمد مجد)، اللذين يخفيان عنه خبر اعتقال والده تعسّفياً، بسبب نشاطه السياسي. يُعوّض المهدي غياب الأب بسلطة ترضية صغيرة، تتمثّل في تولّيه مسؤولية الحفاظ على كرسي المعلّم مرزوق (محمد الشوبي)، الذي يحمله إلى المنزل بعد نهاية الفصل، وتقضي به أسرته مآرب أخرى، قبل أنْ يُشكّل بيعه خلسة من طرف أحمد، بسبب ضيقته المالية (بعد أنْ منعته سلطات المخزن من استغلال أرضه)، انقلاباً درامياً (ضربة معلّم تنهل من فكرة "تأثير الفراشة")، يرمي القرية برمّتها في فوضى عارمة.

قبل ذلك، ينسج الحكي لوحة جماعية، انطلاقاً من خيوط درامية متشعّبة، وفق وحدة نسبية للزمان (شهر رمضان)، والمكان (القرية، ومَشاهد قليلة في المدينة)، تجعل بضع فضاءات (منزل المهدي، دار "القايد"، مقهى القرية، وغيرها)، مسرحاً لمَشاهد قصيرة، تمتح بتطوّر بطيء، لكنه محكم ودقيق، من مشاهد الحياة اليومية، لترسم لوحة درامية جماعية معبّرة، كجداول ماء رفيعة ومتشعّبة تلتقي، مُكوّنةً نهراً يرتفع منسوبه تدريجياً إلى أنْ يغدو هادراً بالمنقلبات والأحاسيس.

بينما تشتغل أمّه نهاراً، خادمة في منزل "القايد"، ينفلت المهدي إلى غرفة مليكة (مريم مسعاية)، كريمة القايد المُدلّلة، التي تدخّن السجائر خفية في نهارات رمضان، وتنصت إلى أغاني كايت بوش، بينما تحدّث المهدي عن نشاطها النضالي رفقة زملائها في الثانوية، لمناصرة الأساتذة المعتقلين، قبل أنْ تلقى حتفها في حادثة سير، رأى فيها أهالي القرية عقاباً إلهياً. في طريق عودته من المدرسة، يتابع المهدي ورفاقه مشهد السعي السيزيفي والسريالي للحسين (محمد عفيفي)، العسكري المتقاعد، الذي يعيش وحيداً، ويشقى يومياً بحمل دلوين على كتفيه لجلب الماء وسقي حقله (متّخذاً شكل الصليب المحيل إلى فكرة طريق الآلام المسيحية في الطريق، قبل أنْ يغدو شبه فزّاعة آدمية عند وصوله إلى الحقل)، بعد أنْ "عاقبه الله على قتل زوجته بمنع المطر عن حقله، حتّى حين يتساقط على باقي أرجاء القرية".

 

 

واقعية جديدة

قوسٌ فانتازي يلامس ضرباً من الواقعية الجديدة، بغية القبض على تعقيد الواقع، ويعزّز تراجيدية مآل شخصيتيّ مليكة والحسين، التي لا تمثّل نقطة الالتقاء الوحيدة بينهما. فبالإضافة إلى كونهما الوحيدتين اللتين ترفضان الوضع القائم، وتسعيان إلى تغييره، عبر التمرّد على الموروث الديني والنظام السياسي (أليسا وجهين لعملة واحدة؟) بالنسبة إلى مليكة، ومجابهة سطوة المطلق الشمولي من طرف العسكري المتقاعد، التي تُوّجت بخلقه فضاء تعبّد خاصا، وقهره لممثّلي المخزن، هاتان الشخصيتان تفشلان في نهاية المطاف، ما يجسّد إخفاق كلّ محاولات التحديث الرامية إلى تفتّق الفردانية، واحترام الحريات الفردية في مجتمع تقليدي، ينخره الامتثال والعقلية التبعية.

تعثّرٌ يجد صداه حتّى في المسار السينمائي المبتور لممثِّلَي الدورين. فمريم مسعاية (مليكة)، لم تمثّل بعد هذا الدور قطّ، بينما وجد محمد عفيفي في العسكري المتقاعد، رغم ضيق مساحته الظاهر، أحد الأدوار النادرة له، مع دور علي بن علي في "السراب" (1979)، لأحمد البوعناني، التي استغلت موهبته الفريدة، واتّساع طيف مؤهلاته التشخيصية.

شخصيتان ثانويتان أخريان تحظيان بدور محوري في معادلة السرد: المُدرّس مرزوق (محمد الشوبي)، وعبد الهادي (عبد الله شيشا)، التقني المسؤول عن محطة البثّ التلفزي في القرية. هاتان الشخصيتان تشتغلان بمنطق التنافس بدل التشابه، فمرزوق وعبد الهادي مُغرمان بالسعدية (هاجر مصدوقي)، جميلة القرية. بينما يحاول المدرّس فتنها برسائله الغرامية ونصوصه الشعرية السمجة، يُعوّل التقني على تحكّمه في بثّ المسلسلات الرومانسية لجذب انتباهها. غير أنّ خنوع الأول، رغم استغلاله سلطة المعلّم لإعادة إنتاج أنساق القمع في فصل الدراسة، من خلال العقاب الجسدي الجماعي، وتأصيل الحفظ بدل النقد؛ ونرجسية الثاني وتلاعبه بمسؤولية البثّ لخدمة أغراضه الشخصية، وتغرّبه عن أهالي القرية، بالإمعان في شرب الكحول؛ هذان الخنوع والنرجسية يُنبئان بفشلهما في كسب قلب المحبوبة، التي تستسلم لإغراء الزواج بـ"القايد" (عبد العاطي لمباركي)، المُعيّن حديثاً، والباحث عن بداية جديدة بعد معاقبته على تحرّشٍ ارتكبه في مهمّته السابقة، بالتعيين في قرية نائية.

نظرات أخ القايد ومعاونه (محمد البسطاوي)، المُشكّكة في رغبته في التغيير، تمهّد لفشل جديد محتوم، وفق القاعدة القائلة إنّ "الطّبع يغلب التّطبع". سرعان ما يستغلّ القايد ذريعة التحقيق في سرقة الكرسي، ليرسي سطوته على القرية، فتتشكّل حلقة أخرى من الهيمنة والشطط في استعمال السلطة.

كيف لا نرى في أطراف هذا المربّع (المعلّم/ التقني/ المخزني/ الفتاة)، إيحاءً خلّاقاً بأطراف الصراع السياسي في المغرب، في مطلع ثمانينيات القرن المنصرم؟ كيف تمخّض هذا الأخير عن اندحار المعسكر التحرّري، بعد انهيار قيم الجمال والمُثُل العليا (الشعر والفنّ)، التي تجسّدها منظومة التربية ـ التعليم ـ الإعلام أمام ليبرالية منظومة التحكّم الرامية إلى تأبيد الوضع القائم، وإرساء الهيمنة والتسلّط؟

لعلّ سمير (المخرج نفسه)، رفيق والد المهدي في النضال، الذي يزور أسرة المهدي للاطمئنان عليها، ولا يخفي حبّه لأمينة، ليس سوى استشرافٍ للنّخب التي ستجنح، في العقدين المواليين، إلى التكيّف مع الواقع، باختيارها التحزّب، وبالتالي الانخراط في اللعبة السياسية.

 

لقطة عامة وثابتة

يُتيح اعتماد اللقطة العامة والثابتة، في معظم مَشاهد "ألف شهر"، حيوية بصرية، كثيراً ما يُعزّزها اعتماد عمق الحقل في اختيار الأماكن وحركة الشخصيات المستمرة. هذا يمنح المُشاهد حرية اختيار ما يُركّز عليه، لأنّ هناك أشياء كثيرة تجري في الوقت نفسه على الشاشة. هكذا، يفضي تصدّق أمينة بجزء من مالها ـ المُحصَّل من بيع مجوهراتها ـ لمتسوّلة في خلفية الصورة، إلى انتقال نفر من المتسوّلين من مُقدّمة الصورة (قرب باب المسجد)، إلى عمقها، ليستحوذوا على الأموال كلّها لأمينة. لقطة بونويلية (أفكّر في "فيريديانا")، لم تكن لتحتفظ بتأثيرها ولا بصدقيّتها لولا المسافة والديناميكية المتأتيتين من اللقطة الثابتة والعامة.

تصبّ خيوط الحبكة في مشهد ختامي، يرصد زفاف القايد الجديد مع مليكة. تحضر الكراسي بوفرة، ومن الأنواع كلّها، في تكثيف رمزي يُلمّح إلى تضخّم "أنا" السلطة، ويُمهّد لقرب الانبجار (أو الانفجار من الداخل)، فتأتي شرارة انفضاح سرقة الكرسي الأصلية (كما الخطيئة الأصلية) لتضرم ناراً (العنصر الطبيعي المفضّل لبن السعيدي ورفيقته في جُلّ أفلامه) تأتي على الفرح الأخضر في مهده، وتُطهّر ما يَبِس من مشاعر مكبوحة في الشخصيات، قبل أنْ ينسدل جينريك النهاية على مشهد عربة الفرقة الموسيقية، التي تتلقّف المهدي وأمّه وجدّه، في طريق فرارهم إلى المدينة، من دون أنْ تتوقّف عن العزف.

نهاية مؤثّرة، بمزيج السوداوية المتفائلة المُنبعث منها، تذكّر بختام "الأعين السوداء" (1987)، لنيكيتا ميخالكوف، وتستشرف معطى اجتماعياً مهماً آخر: تنامي الهجرة القروية.

يظلّ "ألف شهر"، بعد عقدين على إنجازه، فيلماً أوّل كبيراً ومُذهلاً بزخمه الموضوعي، ونضج الرؤية الكامنة في تصوّره، وبراعة الممثلين في تأدية شخصياته، ما مَكّنه من القبض على رهانات منعرج مفصلي في التاريخ الحديث للمغرب، ومخاض العنف المعنوي الكامن فيه. مرحلةٌ شكّلت حلقة الوصل بين فترة "سنوات الرصاص"، المتّسمة بالقمع الصريح، وبوادر إرساء وسائل تحكّمٍ ليبرالي وبيل، رغم نعومته الظاهرة.

بفضل مقاربة مُتجذّرة في الحداثة السينمائية، لجأ فوزي بن السعيدي، كشخصيته الرئيسية المهدي، إلى شاشة السينما، للالتفاف على جفاء الواقع، وسافر مثله إلى عوالم الخيال والتلميح الشاسعة، عبر النظر إلى شمس الحقيقة، من خلال غلاف الحلوى الملوّن، كأنّه يهمس في آذاننا، كما يهتف المهدي لرفيقه الذي لا يرى شيئاً: "كلّ شيء هناك. يكفي فقط أنْ تعرف كيف تنظر".

المساهمون