تدفع مشاهدة أفلام تحريك عدّة، معروضة في الدورة الـ5 (14 ـ 22 أكتوبر/تشرين الأول 2021) لـ"مهرجان الجونة السينمائي"، إلى التفكير في التجديد الحاصل في اشتغالاتها السينمائية، تقنياً وفكرياً وأسلوبياً، وفي شدّة تأخّر السينما العربية عنها، على افتراض أنّ هذا النوع من الأفلام موجودٌ فيها أصلاً. هذا ما لا يرتضي به واقعها، إلّا في حدود ضيقة جداً، لا تكاد تسمح بمقارنات ولا مقاربات كثيرة مع غيرها، لتباعد إنتاجها وشحّته.
المتابعة الحاصلة للمُنجز السينمائي من أفلام التحريك، المعروض في تلك الدورة، تؤشّر على تحرّك مراكز إنتاجها التقليدية، وبروز أساليب معالجة، مختلفة كلّياً عن تلك التقليدية، المتمركزة في هوليوود. السينما اليابانية مثلاً تُؤسّس لنفسها مركزاً تنافسياً وإبداعياً مستقلاً بحدّ ذاته. مُنجز الياباني هاياو ميازاكي، وحده، يعزّز مصداقية توصيفها بـ"الخاصة". بقية النتاجات الآسيوية، ومنها الإيرانية، ظلّت تُجاري، ولم تنقطع عن الحضور في المشهد الخاص بالتحريك، على قلّتها. ديناميكية السينما الأوروبية تسمح لأفلام التحريك عندها بمقاربة مواضيع إنسانية آنيّة، وابتكار أجناس فيلمية، يتداخل فيها الوثائقي ويتشابك مع الروائي، سرداً وتأطيراً درامياً.
ثيمات للتحريك
سينمات أوروبية أخرى يُهجِّن المخيال السينمائي أجناسها، ويتجاوز حدود توصيف نوعها، كالهولندي "كوبيليا" (2021)، لجِف تيودور وستيفن دي بيول وبن تيسور. الهجرة والحروب والعنصرية، ثيمات تُعاد معالجاتها تحريكاً برؤى إخراجية حداثوية، وتأمّل عميق في مظاهرها، يُتيح فنّ الرسم الإبحار في تفاصيلها، وعرض الخفي والعصي على التشخيص (التمثيل) السينمائي. حتّى مهارة التصوير (الكاميرا) تتراجع أحياناً أمام بذخ جمال لوحة منسوجة بخطوطِ رسمٍ، لا تترك مجالاً كبيراً لضياعِ أو تجاهلِ تفصيل بصري صغير له أهمية. هذا حاضرٌ في "معبر" (2021) للفرنسية فلورنس مِيْاي، و"فرار" (2012) للدنماركي يوناس بوهر راسموس، و"ليل" (2021) القصير للألماني الفلسطيني الأصل أحمد صالح.
مقاربة "فرار" و"معبر" متأتية من مشتركات متنيّة وأسلوبية بينهما. الأول يوثّق رحلة شاب أفغاني من بلده إلى الدنمارك، هربت عائلته، يوم كان صبياً، من جور تنظيمات دينية متشدّدة، ومتغيرات سياسية لها صلة بالوجود السوفييتي هناك، أجبرتها على ترك كلّ شيء وراءها بحثاً عن أمان مفقود في أرضٍ لم تعرف السلام منذ عقود طويلة. مثله في "معبر"، يهرب الأخوان كِيُونا (13 عاماً) وأدريال (12 عاماً) من مكان أوروبي إلى المجهول، بعد هجوم مليشيات ظلامية على قرية "نوفي فارنا"، سَبوا سكّانها، وأحرقوا بيوتهم. في رحلتهما، صادفا أصناف بشر ومخاطر شتى، وخسرا والديهما.
الحكايات في الفيلمين منقولة برسومات وكتابة لا تشبه سابقاتها. هنا يكمن التميّز والتجديد. "فرار" استخدم تقنية البُعدين (2D). أعطى ذلك للصورة عمقاً أكثر، وأتاح للانفعالات النفسية والتوترات الجسدية أخذ مساحتها التعبيرية في كلّ مشهد. مِيْاي، المخرجة والرسّامة وكاتبة السيناريو مع ماري ديبلُشان، ظلّت نحو 12 عاماً تشتغل على فيلمها، مُستخدمة تقنية رسم نادرة، تتمثّل بالرسم بالألوان الزيتية على الزجاج، وتصوِّر مشاهده مباشرة في أثناء العمل. تضع كلّ لوحة تحت العدسات المثبتة فوقها، ثم توضّبها طبقاتٍ. هكذا يتشكّل كلّ كادر من كادرات فيلم تحريك، سرده متعدّد المستويات، يمضي في دروب متشعّبة، وأبطاله الصغار يخوضون تجارب متباينة في شدّتها.
الشخصيّ فيهما حاضر. هذا يُقرّبهما من أسلوب "سينما المؤلف". المخرج الدنماركي صديقٌ في الواقع لبطل فيلمه أمين الأفغاني. عرفه منذ أيام الدراسة المتوسّطة، وظلّ معه. لكنّه اكتشف "كذبته" للمرّة الأولى في فيلمه عنه. كذبة حرص المهاجر دائماً على حفظها في الموطن الدفين للأسرار: في داخله. ظلّ يُكرّر القصّة نفسها، التي لقّنها له المُهرّب يوم أرسله إلى كوبنهاغن. أخبر الجميع حينها أنّه يتيم، وأنّ كلّ أفراد عائلته قتلوا في أفغانستان على أيدي عناصر المليشيات المسلّحة. اعترافه أمام كاميرا صديقه بوجودهم أحياءً أربك علاقته به، لكنّه منح الفيلم حيوية، أجازت له الرجوع إلى الماضي، وسرد تفاصيله. أعادت الذكريات القديمة مسار رحلته، كما أعادت صوغها كما هي، مُضافةً إليها قصّة مثليّته الجنسية، التي أخفاها عن الجميع، ولم يعلنها إلّا بعد أعوامٍ من إقامته في الدنمارك. بوحٌ صادق، سهّل تفهّماً، وأجاز تسامحاً وغفراناً، والأهم أنّه منح صاحب البوح ارتياحاً داخلياً، وخلّصه من قلق وخوف ظلّا معه طوال إقامته في البلد الذي يريد عيش حياة سوية فيه.
الشخصيّ ركنٌ أساسيّ
الشخصيّ والبحث عن خلاص ومصالحة العالم والذات حاضرةٌ عند مِيْاي بصيغة مذكّرات (دفتر رسم تخطيطات الصبية كِيُونا)، قاربت فيها تجربتها الشخصية، كما أرادت هي إخبار مُشاهِد فيلمها في مُفتتحه، الذي تدخّلت بنفسها في سرد تفاصيله، ما يشي برغبة في قول إنّ ما جرى في فيلمها جرى حقيقة لها ولأهلها. الشخصيّ في السينما لا يشترط، بالضرورة، تطابقاً كلّياً مع الواقع. الخيال يسمح باستعارة تجارب حياتية مقاربة، غير بعيدة غالباً عن مساحة العائلة وتجاربها.
العام بصيغة الشخصيّ، في "الفرار" و"معبر"، يفتح مجازاً لعرض مشهد كونيّ مشحون ومُدرَك بتجارب وحكايات أخرى، تشبه حكايات أبطالها، جرت معالجتها سينمائياً من قبل. لكنّ الخاص والمتفرّد فيهما يكمنان في الاشتغال السينمائي المدهش، توليفاً وكتابة وتأليفاً موسيقياً، والأكثر في رسوماتهما المُعتنية بالمُنمنات الدقيقة، المُعبّرة عن دواخل الشخصيات وأفكارها وقيمها، ما أحالها إلى معالجات تخطّت السياسي المباشر إلى الحياتي المتشعّب والمتشابك.
إلى الحياتي والفلسفي، يذهب جِف تيودور وستيفن دي بيول وبن تيسور، صنّاع "كوبيليا"، في مُنجز تختلط فيه الأجناس الفيلمية وتتفاعل، لإكمال نصّ يعالج ظاهرة سلوكية آنية، كتابته الجديدة مستندة إلى عرضٍ باريسي لباليه قُدِّم عام 1870، ثم قدّمته "فرقة الباليه الوطنية الهولندية" مجدّداً عام 2016، وصنعت السينما منه فيلم تحريك مُشعّ بالجمال. حكايته بسيطة: علاقة حبّ بين شابّين، من دون الإفصاح عنها.
شابة سمراء تُراقب حبيبها عن بعد، وكلّما اقترب منها، جاءت أخريات قطعن الطريق عليه. خلت تلك المنغصات والموانع من عدائية صارخة، لكنّها فضحت، ضمناً، طمعاً متأصّلاً في امتلاك واحتواء، تضخّم أكثر مع وصول جرّاح تجميل إلى المدينة، حاملاً مشروعاً يزعم وصول المشاركين فيه إلى الكمال في الجمال. مشروع جهنمي دغدغ دواخل البشر، أخفى فيه صاحبه رغبته في السيطرة والهيمنة على المدينة وسكّانها. لتحقيقه، توجّه إلى نقاط ضعف الإنسان، ورَكَن في نشره على الرغبة الكامنة عندهم في الاستحواذ على كلّ ما هو جميل وثمين في الكون. صدّق الناس فكرة تحويلهم إلى كائنات جميلة كاملة المواصفات، والشابة كادت تفقد حبيبها إلى الأبد، بسببها.
فكرة "كوبيليا" تقارب هوس البشرية، اليوم، بعمليات التجميل، وتحسين الأجساد بمواصفات "مثالية"، يضعها المستفيدون من الترويج لبضاعتهم عبرها. تلك الحبكة المعاصرة مُقدَّمة بالأبعاد الثلاثية، وفي متنها يجتمع التمثيل بالرقص والرسم. كلّها تتحرّك بتناغم على إيقاعات موسيقية باهرة (تأليف خاص لماوريتزيو مالانيني)، تحاكي عروض الباليه وتستنسخها بابتكار نوعي، لا تُشغل بال المُشاهِد بدقّة توصيفه جنساً، بقدر ما تأخذه معها بعيداً إلى عوالمها الساحرة، المُحفِّزة للتفكير بالمدى الذي وصلت إليه سينما التحريك الأوروبية، وقدرتها الهائلة على تجريب أفكار حداثوية قابلة للتأويل، وإسقاط الواقع المعيش عليها، بحمولتها الفلسفية والاجتماعية.
ندرةٌ عربية
يحتمل "ليل" لأحمد صالح، رغم قصر مدّته (16 دقيقة)، تأويلاً لحكايته الغريبة، المشحونة بفانتازيا تمنح الليل روحاً وقدرة على مواساة المتألّمين مِن فَقْدٍ وخسارات. ظلمة الليل الحالكة فوق مدينة، هُدِّمت بيوتها وشُرِّد سكّانها ومات أطفالها، تغدو في فيلم التحريك رحمة للموجوعين والباحثين عن أحبّة لهم، أضاعوهم في حربٍ، أو هكذا توحي أجواؤه التي تلفّها العتمة، ومن تجويفها يظهر تكوين يشبه إنساناً، يغدق على أمّ ـ فَقَدت ولدها، ولم تكفّ عن البحث عنه ليل نهار ـ نعمةَ النوم قليلاً، أو حتّى إيهامها بموته، وبجرف أمواج البحر جثّته إليها. مواجهة الفجيعة تُسَكِّن قلق الأم، وتوقف عذاباً لا حدّ له.
بسهولة، يمكن مُشاهد الفيلم إسقاط الوضع الفلسطيني عليه، مدينة غزّة تحديداً. يمكنه الذهاب أيضاً إلى أبعد من ذلك، بتصوّر مدنٍ أخرى من العالم، لا مُسَكِّن لأوجاع الأمهات الثكالى فيها سوى هدأة الليل وظلمته. الرسومات بسيطة ومقنعة، والاشتغال عليها تحريكاً وتوليفاً حقّق توازناً بين غموض الحكاية والتباسها، والكامن فيها من معنى.
أمرٌ كهذا لم يوفَّق أول فيلم تحريك مصري طويل، بعنوان "الفارس والأميرة" (2019)، في مقاربتها، ولم يتجاوز التقليديّ والمستَنْسَخ من تجارب تحريك عالمية أخرى. مُنجز بشير الديك هذا باهتٌ، تنقصه الأصالة. ومع إتمامه، بعد توقّف دام أعواماً طويلة، تلازم معه سؤالٌ آخر عن أسباب تأخّر السينما المصرية في هذا الحقل، وعمّا إذا كان مقبولاً بعد مرور نحو 9 عقود على ظهورها، أن يظل هذا الجنس الفيلمي غائباً من مشهدها، بينما تشير محاولات بسيطة، لكنّها جادة، لشبابٍ من دول عربية أخرى، إلى رغبة في استثمار وجودهم في الخارج لتحقيق مُنجز معقول في التحريك، كالوثائقي "حكاية من حياتي" (2021)، للسوري الألماني الجنسية داوود العبدالله.
في 4 دقائق، أوجز العبدالله صراعاً دموياً سورياً دام أكثر من 10 أعوام، دُمِّر البلد فيها، وهُجِّر ملايين ناسه، وراح ضحيته كثيرون منهم. بذكاءٍ، جمع في حكايته بين الشخصيّ والعام. انطلق بصوته (تعليق) من تاريخ 31 ديسمبر/ كانون الأول 1993، الموعد السابق قليلاً على ولادته. كانت والدته تمنّي النفس بأنثى، لكنّه جاء في العام التالي صبياً، ظلّت الأم تُلبسه ملابس البنات، لأنّها تريده هكذا كما تمنّت.
لأنّه فيلم "ضربة"، انتقل سريعاً من مرحلة إلى أخرى، بتماسك شديد. ببلوغه 17 عاماً، جعلته الثورة السورية رجلاً، تجاوز سنّ المراهقة. وجد نفسه سائراً بين الجموع المُنادية بالديمقراطية والحرية. لم يمنحه عنف السلطة وعسفها وقتاً طويلاً للمكوث في بلده، فركب البحر نحو المجهول. أهوال رحلة البحر رسمها بوجع منقول باشتغال تحريك مقنع. الرسومات دالة المعاني، والتعليق الصوتي مُكمّل. ربما أمكن تجاوزه، لكنّ الرغبة في التوصيل الدقيق شجّعت على بقائه، ولا بأس من ترديد هتافات، حتّى لو كان فيها تكرار (كليشيهات): "أحلامنا لا تعرف الحدود"، و"موت الورود لا يؤخّر الربيع"، وغيرهما.
التكثيف فرض شرطه، والأهم التوافق معه جمالياً. هذا متحقّق في فيلم تحريك، يمكن وضعه بين أكثر الأفلام السورية ـ المُعالجة للحراك الشعبي ـ كثافة وإيجازاً، كما حرص على عرض الكامن فيه من أوجاع وآلام. 4 دقائق لخّصت تجربة سياسية، من بين الأقسى في التاريخ العربي المعاصر، فيلم التحريك قادر على نقلها إلى الشاشة، من دون إطالة وخوف، وبمهارة استثمار للزمن السينمائيّ، وإمكاناته الكبيرة.