"إن لم يعد ثمة أمل لنا، فبوسعنا على الأقل أن نأمل يأس مدمري أملنا". تختصر تلك الكلمات القليلة، لكاتبها الثيولوجي آدم كوتسكو، مزاجًا عالميًا متناميًا، نجم عن أزمات اقتصادية واجتماعية وصحية، خنقت شمال العالم وجنوبه، وكشفت عن تفاوتات شاسعة بين مجتمعات متجاورة، في ظل النظام الرأسمالي. كان للفن نصيبه من كل هذا، فبعدما غاب "بطل الطبقة العاملة" عن الرحلات السينمائية والبرامج التلفزيونية لمدة طويلة، يعود إليها اليوم وقد ضاق ذرعًا بمأساته المزمنة، عاقدًا العزم على إحقاق العدالة، وإن بأكثر الطرق سوريالية وخيالية.
تتدفق تبعًا لتلك الغاية أفلام ومسلسلات من نوع خاص، بات يعرف باسم Eat the rich، يبدي اهتمامًا حثيثًا بديناميكيات القوة والسلطة والفوارق الطبقية، مدفوعًا بانبثاق عدد من التخصصات المستحدثة في مجال الدراسات الثقافية والتواصلية والفيلمية من ناحية، وبإصرار صناع النوع ومشاهديه على محاكاة الواقع المتأزم من ناحية أخرى.
ليست تلك النوعية من الأفلام بالوافد الجديد على الشاشات الكبيرة، لكنها باتت اليوم تلعب دورًا محوريًا في الإنتاجات الجماهيرية الضخمة، ولها شعبية متزايدة باستمرار، يمكن تأويلها على أنها انعكاس غبر مباشر لواقع يزداد سوءًا مع مرور الوقت. الأمثلة عن تلك المشاريع، السينمائية والدرامية، التي تتسم بالوعي السياسي والطبقي كثيرة في الآونة الأخيرة، ومنها The White Lotus ،Don’t Look Up ،Squid Game ،The Platform ،Parasite، وينضم إليها حديثًا فيلما "مثلث الحزن" الحائز سعفة كانّ الذهبية، وThe Menu.
تبذل تلك الأعمال جهودًا كبيرة لملاقاة تطلعات مشاهديها، وبعضها يحصد بالفعل امتداحًا جماهيريًا ونقديًا واسعًا، لكنها مع ذلك تبقى موضع تساؤل كثيرين، ومثار جدل كبير في سياساتها وخططها، وفي أهداف وغايات بعضها، حالها حل معظم الأعمال التي تتبنى رؤى فلسفية أو مقولات أخلاقية.
مهما كانت النوايا الكامنة وراء إنتاجها، تميل تلك الأعمال التي باتت تعبر عن عدائها الصريح للرأسمالية، إلى أن تكون بمثابة مرآة تعكس مخاوف المجتمعات ورغباتها، خاصة في السنوات الأخيرة التي بدأت تستبدل مزاج الكآبة وانعدام الأمل اللذين ميزا تيار ما بعد الحداثة بمزاج التحدي والرفض، وتعلن عودة المحاربين القدماء من المثقفين إلى مواقعهم السابقة بعد عقود من هيمنة ما بعد البنيوية والشكليات الجمالية على المشهد الفني.
تنطلق تلك المشاريع، إذن، من أرض صلبة، مستندة إلى الواقع واحتياجاته، لكنها مع ذلك تجد دومًا طريقها للالتفاف على واقعية الكارثة عبر الاستغراق في الخيال وفي فرضيات عقابية تطهيرية لا طائل منها، إذ تتشارك أعمال هذه الموجة السينمائية الجديدة ببناء درامي متشابه، معظمها أبوكاليبتي تنبؤي، أو سياسي هجائي ساخر، يندرج تحت فئة الكوميديا السوداء أو الكوميديا المرعبة. بعضها يركز على معاناة الفقراء، حرفية كانت أم رمزية، مثل "سكويد غيم" و"باراسايت"، وأخرى ترسم جحيمًا افتراضيًا للأثرياء، كما في "مثلث الحزن" و"ذا منيو"، إذ تطبق فيه انتقامها وعدالتها الشعرية.
بعيدًا عن الشكل، تتقاسم جميع التجارب السينمائية المناهضة للرأسمالية على مدى السنوات الخمس الأخيرة انعدام الرؤية الواضحة للمستقبل. نهاياتها الركيكة قلما تقترح حلولًا جدية أو واقعية لمواجهة نظام لم يعد صاعدًا بعد الآن. في المحصلة، هي دائمًا خيالية أو "متخيلة"، تضحي بالصالح والطالح من شخوصها وأفكارها في نهايات مرتبكة لا تجد مخرجًا منطقيًا من المأزق الأيديولوجي المفترض سوى عبر إبادة جماعية، ينجو منها أحيانًا طفلة، كما في "ذا بلاتفورم"، أو "بريء" مزعوم من معاصي البقية وذنوبهم، كما في فيلم مارك ميلود؛ يحترق الطاهي المحترف في "ذا منيو" مع زبائنه المترفين وطاقم عمله، ويغرق ركاب سفينة "مثلث الحزن"، في حين يقع بقيتهم تحت سلطة ديكتاتورية أنتجتها مظالم الطبقة العاملة، وينتهي العالم في "دونت لوك أب" بهرب الأثرياء من كارثة بيئية هم من تسبب بها. أما "ذا بلاتفورم"، فنهايته تترك للمشاهد فسحة إما للحيرة أو للقراءة الفردية.
إن كان من المعروف أن المجتمع الرأسمالي هو كابوس بلا نهاية، فليس من المستغرب أن تتعثر الأفلام التي تطاوله بالنقد بنهايات ضعيفة وغير مقنعة، لا تقدم إضافات جديدة على ما هو معروف منذ عقود، ولا تخرج بأنفسها ولا بمشاهديها من فخ نصبه التاريخ. محاولاتها لمقاربة الصراع الطبقي، وإيجاد مخرج من أزماته العديدة، تكتفي بتصوير المأساة في حدودها القصوى، وكأن الاعتراف بها كافيًا، وتنتهي أحيانًا إلى عكس غاياتها، قصدًا أو عن غير قصد، فتكرس التشاؤم من البدائل الممكنة لهرمية الاقتصاد العالمي، وتؤكد على قسوة الطبيعة البشرية والغشاوة التي تسببها السلطة.
الاعتراض الأكبر على أفلام هذه الموجة السينمائية الجديدة، يكمن في أنها بالكاد تخدش سطح سرديات الانتقام الطبقي، وتبقى رغم مواردها الوفيرة حبيسة الوصفات الجاهزة والاستيهامات والتطير. ينطلق انتقام الطبقة العاملة في تلك الأفلام من خبراتها الخدمية، وتقترح حبكاتها أن تلك الأخيرة تضع الأغنياء تحت رحمة الفقراء في أوقات الشدة، وتشكل سلاحًا بوسع الطبقة العاملة تصوبيه إلى مستغليها إن شاءت؛ للطباخ قدرة على تسميم زبائنه، وللنادل أن يبصق في طبق يقدمه، كما للقبطان أن يغرق السفينة بمن حملت.
ومع أن فرصة للتكافؤ قد تلوح في الأفق بفعل كارثة بيئية أو بشرية، لا توضع أبدًا طاقات الطبقة العاملة في محلها، ويوحي سلوكها التدميري الذاتي أن ما من فكرة وراء انتفاضتها، بل فوضى خالصة وجشع مخيف للسلطة، كما الحال مع عاملة التنظيف في "مثلث الحزن"، التي تختار تصفية كل من يدرك وجود منتجع سياحي في قلب الجزيرة المعزولة والقابعة الآن تحت سيطرتها.
لا تعمل تلك النهايات بوصفها رسائل مضادة للثورة فحسب، بل تضع أفلامها في موقف أخلاقي حرج، قوامه الوحيد الصلب هو جر الآخرين إلى جحيم اللاعدالة، حيث يعيش البقية، وإيجاد العزاء في رؤيتهم يعانون ويتذللون بأداءات غير مقنعة حتى. ففي حين تقضي تلك الأفلام وقتًا طويلًا في صياغة الحبكة ورسم السيناريوهات المحتملة، لما يمكن أن يتمخض عنه ظرفها الشرطي، تتغافل عن نحت عوالم شخصياتها، فتصويرها للأثرياء كاريكاتوري وهزلي في أحسن أحواله، خاصة الورثة البرجوازيين وعمالقة صناعات التيك والنخبة الأوليغارشية، بعيدًا كل البعد عما يتصف به أولئك من حنكة ودهاء في الواقع.
لا شك أن أفلام العداء الطبقي تتحول إلى موجة ثقافية جديدة، تحارب الرأسمالية بوسائل إنتاج لم يكن من الممكن تصورها في مجتمع ما قبل الرأسمالية، وليس من المستبعد أن تكون شروطها الإنتاجية المكلفة سببًا لدحض حجتها وغايتها، أو ربما بداية اتفاقية سينمائية أخرى كالتي شهدها عام 1995 مع حركة دوغما. أيا كانت مآلاتها، تظل تلك المشاريع على اختلافها خطوة مهمة تؤسس لنوع يأتي في أمس حاجتنا إليه.