أفلامٌ من أذربيجان: سينما التأمّل والتفكيك

30 مارس 2022
"أبناء زهرة" لإلجار نجف: مقاومة النازية بالأسود والأبيض (الملف الصحافي)
+ الخط -

رغم أنها من أولى البلاد التي شهدت بدايات السينما، وأوائل عروض الأخوين لوميير، إلا أن السينما الأذربيجانية لا تاريخ يُذكر لها على امتداد قرن أو أكثر من تاريخ السينما العالمية. مردّ ذلك تأثير الانغلاق بفعل الاحتلال السوفييتي، وتطبيق الاشتراكية. بين عشرينيات القرن الماضي ومطلع تسعينياته تقريبًا، عانت السينما الأذربيجانية ضعفاً شديداً وتنميطاً وتأميماً، ما أدّى إلى فقر المواضيع والمعالجات، وغلبة السياسة والوعظ والدراما الاجتماعية، المتماشية مع النهج الاشتراكي المعروف، والمُطبَّق آنذاك في كافة دول الاتحاد السوفييتي السابق.

 

نهوض متأخّر

منذ سقوط هذا الاتحاد، تحاول أذربيجان ـ المتعدّدة الأعراق واللهجات، ذات الغالبية المسلمة والدستور العلماني ـ قطع خطوات كبيرة نحو التحرّر من الماضي السوفييتي، وتطبيق الديمقراطية، والسعي الحثيث إلى الانفتاح على العالم. واهتم الرئيس السابق حيدر علييف (1993 ـ 2003)، بالثقافة والفنون، وحدَّد، في ديسمبر/ كانون الأول 2000، 2 أغسطس/ آب من كلّ عام "يوم السينما الأذربيجانية".

على خطاه، سار نجله، إلهام علييف، الرئيس الحالي، نحو الاهتمام بالثقافة والفنون، وخاصة تطوير السينما ودعمها، وإنشاء دور عرض، وتوفير مناخٍ مناسب للإنتاج السينمائي، محلياً ودولياً، ومنح تسهيلاتٍ لإنتاج أفلام عالمية، تصويراً وإخراجاً، في البلد. مثلٌ على ذلك: في 4 أغسطس/ آب 2008، وقّع على أمر "تطوير فنّ السينما". وبإشرافه، وضعت الدولة "برنامج تطوير السينما الأذربيجانية للفترة الممتدة بين عامي 2008 و2018"، الذي يهدف أساساً إلى زيادة إنتاج الدولة للأفلام، فضلاً عن توفير معدّات وأجهزة سينمائية حديثة، والتوسّع في إنتاج أفلام مع دول أجنبية، وإعادة بناء صالات على أحدث طراز. كما أتاح إنشاء استديوهات وشركات خاصة لإنتاج الأفلام وتوزيعها. أثمرت الخطّة تطوّراً في الصناعة، ومشاركة أفلام أذربيجانية في أكثر من 40 مهرجاناً دولياً في العقدين الماضيين. كما شهد البلد، عام 2013، انطلاق الدورة الأولى لـ"مهرجان باكو السينمائي الدولي".

رغم حصول المرأة على حقّ التصويت عام 1918، ورغم مظاهر الحداثة والانفتاح الظاهرين في نواحٍ عدة في المجتمع، لا تزال "العقلية المجتمعية" مقيّدة للغاية. فالماضي والتاريخ لا يزالان يُسيطران، والثقافة الذكورية ودور الرجل القائد في المجتمع والهرمية الأسرية لا تزال حاضرة، وبقوّة. هذه مواضيع تتناولها الأفلام أخيراً. أمور كهذه أخّرت نهوض السينما وتطوّرها، حتى بدايات الألفية الثالثة، وآثار ذلك محسوسة بوضوح. فرغم التطوّر الملموس في صناعة السينما، تكاد الأسماء النسائية، في الإخراج والتمثيل والمونتاج والتصوير وغيرها، لا تذكر. باستثناء أسماء مخرجات شاركن في مهرجانات بأفلامٍ جيّدة فنياً، تتناول المرأة والمجتمع والعادات والتقاليد وثقل الماضي في البلد، كليلي جافاروفا في "حدث ذات مرة في شنغهاي" (2018)، ولالا علييفا في "إنّهم يهمسون لكنّهم يصرخون أحياناً" (2020)، وتامينا رافايلا في "نساء" (2020). هذه أفلامهنّ الأولى القصيرة، لكنّها خطوة ربما تقود مستقبلاً إلى مساحات متزايدة للإنتاجات النسائية في أذربيجان.

على غرار نقص الأسماء والإنتاجات النسائية، يُلاحَظ اختفاء كامل تقريباً للإنتاج الوثائقي في السينما الأذربيجانية، الحاضرة دولياً. الأمر نفسه ينطبق على الأفلام القصيرة بأنواعها، وأفلام الرسوم المتحركة، وغيرها. حتّى اللحظة، لم يرتفع إنتاج السينما الأذربيجانية كثيراً، مقارنة بالأعوام السابقة، إذ لا يزال يُرواح بين 5 و8 أفلام روائية طويلة في العام، وبين 25 و40 فيلماً وثائقياً. أرقامٌ كهذه تُشبه، تقريباً، تلك المتحقِّقة في الفترة بين عامي 1990 و1995، حين أُنتِج نحو 40 فيلماً طويلاً، وأكثر من 125 فيلماً وثائقياً.

 

جيل شبابي جديد

في العقد الأخير، تحديداً، لوحظ بروز أسماء أذربيجانية عدّة، غالبيتها من الشباب، طرحت نفسها دولياً، أمثال هلال بيداروف (1987)، ورو حسانوف (1987)، وإلجار نجف (1975)، وإيلمار إيمانوف (1985)، وتيمور هاجاييف (1982). برز اسم بيداروف في الدورة الـ77 (2 ـ 12 سبتمبر/ أيلول 2020) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، بمشاركته في المسابقة الرسمية، ممثّلاً أذربيجان للمرة الأولى في المهرجان، وفي تاريخ البلد، بفيلمه التأمّلي "بين الموتى" (2020)، الفائز بجوائز عدّة، منها "نجمة الجونة البرونزية"، في الدورة الـ4 (23 ـ 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2020) لـ"مهرجان الجونة السينمائي". ("العربي الجديد"، 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020). واختير "الجزيرة داخلي"، لحسانوف، لتمثيل أذربيجان في اللائحة الأولى لـ"أوسكار" الـ94، من دون الحصول على ترشيحٍ رسمي (27 مارس/ آذار 2022). أما نجف، فسبقهما بأعوام قليلة إلى المشهد السينمائي الدولي والجوائز، وإنْ ذاع اسمه بفضل رائعته "بستان الرمان" (2017).

بعد تناوله موضوع الموت، في 4 قصص مُختلفة، مُتّصلة ـ مُنفصلة ببطله دافود، ومُغايرة أسلوباً ومعالجة، في "بين الموتى"، يتأمل هلال بيداروف، فلسفياً ووجودياً، في "حامل المصابيح"، عبر 4 قصص أيضاً، في موضوع العدالة والحرية، من دون سرد خطّي مُتّصل، أو منفصل ـ متّصل، انطلاقاً من شخصية دافود (أوركسان إسكندرلي، الممثل في فيلمه السابق أيضاً).

يُدقِّق موسى (إلشان عباسوف)، طالب القانون، في قضية الشرطي السابق والخاطف المتسلسل دافود، المتمثّلة في خطفه 4 نساء، لا ترغب أيّ منهن في توجيه اتهام إليه، بل إنهنّ مقتنعات بأنّ دافود جعل حياتهن أفضل، بطريقة ما، حتى مع وجوده على هامش ذكرياتهنّ. تتجلّى الاجتماعات والأسئلة التأمّلية الوجودية الشاعرية بين موسى ودافود وضحاياه، الظاهرين في غابات متلألئة ساطعة، وحقول نفط، وصحاري صخرية، ومبان مهجورة. هذا يعكس أفكاراً ومشاعر داخلية كثيرة.

مع هؤلاء النسوة وتجاربهنّ، تتجلّى أفكار الفيلم، عن الجريمة والعدالة والعقاب، وطبيعة الواقع، والحبّ وقسوته، والإنسانية وهشاشتها، ما أضفى على المواضيع طابعاً عالمياً، بطريقة تطمس الخطّ الفاصل بين الحقيقة والوهم، وتثير تساؤلات عدّة عن الواقع والحقيقة. لكنْ، ماذا عن الغموض، في الموضوع والطرح والمعالجة والقالب السينمائي؟ سؤال يبدو أنّ بيداروف غير مُكترث به، وغير مهتمّ بالإجابة عنه.

 

 

"حامل المصابيح"، قصيدة بصرية شبه انطباعية، تُتْلى بصمتٍ، وبتعليق صوتي بدلاً من الحوار. فيها، تخلّى المخرج عن البنية السردية المعتادة لصالح صُوَر جميلة جداً، ومَشاهد بديعة، وإنْ كانت بينها حقولٌ لاستخراج البترول والغاز، أو في الصيف أو الشتاء، بكاميرا ثابتة أو متحرّكة. هذا كلّه ينمّ عن حُسن اختيار الأماكن، وفنّيةِ تصويرٍ ومونتاج، تُضاف إلى مهارته في الإخراج وكتابة السيناريو.

إنْ لم يتوفر "حامل المصابيح" على جذب وتشويق وإثارة، فإنّه لا يخلو من تميّز الصورة وفنيّاتها الجمالية. إنّه أهمّ أفلام بيداروف وأجملها وأقواها، إلى الآن. إنّه خطوة ملحوظة في إثبات أنّ له بصمة خاصة ومميزة، وليس مُقلّداً لأستاذه المجري بيلا تار، الذي تتلمذ على يديه لأعوام، وتشرّب بعض أساليبه وفنّيات سينماه وجمالياتها.

في "أبناء زهرة"، يعود إلجار نجف إلى عام 1945، ومقاومة النازية. في قرية جبلية معزولة، مجهولة الاسم، تكدّ النساء في أعمالهنّ، ويُجبر الرجال على محاربة الجيش النازي، فيختبئ البعض في الجبال المحيطة بها، هرباً من التجنيد الإجباري. عندما ينضمّ إليهم موسى (همبات أحمدزادة)، ابن زهرة (جوناش مهديزادة)، يُصبح شقيقه الصغير بختيار حلقة وصل بينهم وبين القرية. تتعقّد الأمور عندما يقُتل رئيس الكولخوز، قصاصاً له على اغتصابه إحدى فتيات القرية، فتصل كتيبة من الجيش للتحقيق، والبحث عن الهاربين، والاشتباك معهم، وقتلهم، فتأخذ حياة زهرة وبختيار منعطفاً دراماتيكياً قاسياً للغاية.

يتّسم "أبناء زهرة"، المُصوّر في أماكن طبيعية خلّابة بالأسود والأبيض، ببناء خطّي شديد البساطة، وبقلّة الشخصيات، وبخطوط الحبكة وتماسكها، وبالتركيز على لحظات مفصلية ملهمة في تاريخ أذربيجان، وفترات الكفاح، والصعوبات التي كابدها الأجداد حفاظاً على هوية البلد واللغة. كذلك إعلاء دور النساء في النسيج الاجتماعي، وإبراز أهميته، وهذا كلّه يهتم به نجف، المخرج والمنتج وأستاذ السينما، في أفلامه، إلى إبرازه الدائم لثقافة المجتمع الأذربيجاني، وهويته وروحه.

الروائي الثاني للكاتب والمخرج رو حسنوف "الجزيرة داخلي"، يقدّم شخصية فريدة، تجد نفسها في ظروف استثنائية تجعلها أكثر غرابة. قصّة صادقة عن الوحدة، وسوء المعاملة في الأسرة، والطموح المريض، والهروب، والرغبة في الخلاص.

سيمور طاهيربيكوف (أورخان آتا)، بطل الشطرنج الدولي الكبير، الفائز ببطولة تأهيلية في باريس، يستعدّ لمقابلة حاسمة مع بطل العالم. والده خانلار (فيدادي حسنوف) يُدرّبه ويوجّهه، والرجل طموح وكئيب، ومسؤول سابق في "ك. ج. ب". يعود سيمور إلى أذربيجان لتكثيف تدريباته للمباراة الكبرى، ويزور جدّه المحبوب أنور (رفيق عظيموف)، الذي يخبره عن جزيرة سرية أمضى فيها بعض أفضل أيام حياته.

 

السلطة الأبوية والسياسية

مع تصاعد الضغوط والحصار، خاصة من جانب خانلار، بدأ سيمور، الشاب الخجول، يعاني تقزّماً عاطفياً وقمعاً وانهياراً بسبب الضغط النفسي الرهيب. بعد وفاة جدّه، يبدأ ما يُشبه حلماً، يلعب سيمور فيه الشطرنج مع امرأة جميلة عارية. هذه لحظة انهياره: يحلق رأسه، ويرتدي زيّاً رياضياً، ويسافر إلى الجزيرة التي أخبره جدّه عنها. هناك، يقترب من الساكن الوحيد فيها، مُزارع عجوز حكيم، يعيش في البرية مع أبقار وخيول. في هذه الأثناء، يبحث عنه خانلار وأصدقاؤه الأقوياء في الدولة لتدارك الكارثة.

استناداً إلى انتشار لعبة الشطرنج في أذربيجان، وحصول لاعبين عديدين من ممارسيها على التصنيفات الأولى عالمياً، وأبرزهم غاري كاسباروف (باكو، 1963)، يؤسّس حسنوف فكرة الثقافة الأبوية وهمينتها، عبر أب شمولي طموح، وابن وحيد خائف لا خبرة له، ما يحيل إلى إسقاطات اجتماعية وسياسية جلية وصريحة.

يبدأ "الجزيرة داخلي" بعرض فيديو منزلي رقمي، عن تجمّع عائلي للاحتفال بختان سيمور. بعد ذلك، يظهر سيمور منفصلاً عمن حوله، بعد أنْ أصبح تحت رحمة والده ومدرّبه والسياسيين المحليين، ما يُعرّضه لضغوط دائمة، فهو بطل عالمي. يمضي حياته محصوراً في نظام مُصمّم على جعله البطل الأعظم. شخص في موقعه لا يُمكن أنْ تكون له استقلالية في نظامٍ كهذا، أو أنْ يكون شيئاً آخر غير آلة شطرنج.

 

 

سيمور مُعلّق في فراغ، يشعر به في نفسه. المشكلة أن لا حرية شخصية له، وليس لديه وقت لاستكشاف نفسه كفرد وتشكيل ذاته كإنسان سوي. يكافح لأنْ يكون حرّاً، لكنّه مُحاصر إلى درجة أنّه لا يعرف معنى الحرية. عقلياً، لا يُمكن القول إنّه أدنى من أيّ شخص حوله. يُدرك جيّداً أنّ هناك عالماً كاملاً خارج العالم المحدود للغاية، المُقيم فيه. لكنّه لم يحظ بفرصة استكشافه، وهذا ما يحاول فعله: بتمرّده، وتغيير مظهره، وذهابه إلى الجزيرة، والاستلقاء عارياً، في اتحاد نفسي وروحي مع الطبيعة التي حوله.

بعد 3 أفلام قصيرة، قدّم إيلمار إيمانوف أول روائي طويل له بعنوان "نهاية الموسم"، الفائز بجائزة "الاتحاد الدولي لنقّاد السينما (فيبريسي)"، في الدورة الـ48 (23 يناير/ كانون الثاني ـ 3 فبراير/ شباط 2019) لـ"مهرجان روتردام السينمائي الدولي". دراما أسرية نفسية، عن رحلة أب وأم وابنهما إلى الشاطئ، والمفاجأة المأساوية التي تحدث، وتربك الجميع. يتناول الفيلم مسائل الوحدة والانعزال والاغتراب وسوء الفهم، حتّى بين أفراد العائلة الواحدة. المأزق الذي يتورّطون فيه، وعواقبه الوخيمة على كلّ واحد منهم، يضع مصائرهم ووجودهم على المحك. في الفيلم، يتجلّى الرسم الجيّد للشخصيات الباحثة عن خلاصها، وجودة التصوير، وكيفية تقديم الحبكة.

من المخرجين المتميّزين في صناعة الأفلام الدرامية القصيرة، يبرز اسم تيمور هاغييف، الذي شاركت أفلامٌ له في مهرجانات دولية، وفي أقسامٍ أساسية في أخرى، كـ"مهرجان روتردام"، وتظاهرتي "نصف شهر المخرجين" و"أسبوع النقّاد" في "كانّ". إنّه أول مخرج أذربيجاني يشارك في "كانّ"، ممثّلاً للسينما الأذربيجانية. تبحث أفلامه في أعماق الماضي، وثقل التاريخ على الأجيال القديمة والحديثة، كما في "يارا: الجرج" (2014)، وفي نفوس بشرٍ مختلفين، وفي تصرّفاتهم في المجتمع الأذربيجاني، على خلفية اجتماعية سياسية، كما في ""شنغهاي، باكو" (2016)، وفيه يبتزّ الشقيقُ شقيقتَه وحبيبها، خوفاً من بطش الأب الرجعي وانتقامه. أما "ملح وفلفل للتذوّق" (2019)، فيتناول انفصال الأبناء عن الآباء، وانتفاء مشاركة الابنة والابن أمّهما، حتّى في أبسط آلامها. في "صوب المساء" (2020)، يظهر الانفصام النفسي، وانقطاع التواصل الإنساني بين زوجين، بعد شجار بينهما على شيءٍ تافه.

إلى قلّتها، وتركيزه على القصير منها، تشبه أفلام تيمور هاغييف سينما الطريق، وتتفجّر الأحداث عادة داخل سيارة.

المساهمون