أفلامٌ عربية في "كارلوفي فاري الـ56": قهرٌ وحبّ وتحدّيات

15 يوليو 2022
"تحت الشجرة" للتونسية أريج السحيري: صدق شديد وأداء تلقائي (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

تجاوب الجمهور التشيكي مع السينما العربية بوضوح لافت للانتباه، ما يُؤكّد حضورها في الدورة الـ56 (1 ـ 9 يوليو/ تموز 2022) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي". كلّ بطاقات العروض الخاصة بالأفلام العربية نفدت (Sold Out)، وفي بعض العروض جلس مشاهدون عديدون على الأرض. معظمها حاز على تصفيقٍ حماسي، بصوت مرتفع. المخرج اللبناني علي شيري عبّر عن فرحه الكبير بهذا، أمام جوزيف فهيم، الناقد والمبرمج المسؤول عن أفلام الشرق الأوسط والمنطقة العربية في المهرجان، مُبدياً دهشته من هذا الاستقبال الاحتفائي من الجمهور، عقب خروجه من عرض "بيروت اللقاء" (1981، 101 دقيقة) للّبناني الراحل برهان علوية.

للسينما اللبنانية حصّة الأسد هذا العام، بين الأفلام العربية في "مهرجان كارلوفي فاري". فإلى جانب "ورشة" لدانيا بدير، المعروض في برنامج "براغ شورتز"، و"بيروت اللقاء" في القسم الاستعادي "من الماضي"، شارك الفنان التشكيلي علي شري في قسم "آفاق"، بفيلمه الروائي الطويل الأول "السد"، الذي تدور أحداثه بشكل غامض، على خلفية الثورة السودانية، في قصّةٍ لعامل سوداني يُدعى ماهر، يعمل في بناء الطوب الطيني على ضفاف النيل، ومتابعة لرحلة آلامه وانفصاله عن تلك الثورة، كأنّه لا ينتمي إليها، عبر تكوينات بصرية تشكيلية بديعة، منسوجة مع شريط صوت خلّاق، يُضيف أبعاداً أخرى للصورة.

أفلام عربية أخرى عُرضت في "آفاق"، منها "القفطان أزرق"، للمغربية مريم توزاني: أشكالٌ من الحبّ والتضحية والتسامح والمغفرة، والرغبة في التطهّر. عن مؤسّسة الزواج، وكيف يُمكن أنْ تُصبح دعماً وسنداً كبيرين للطرفين، وكيف يُمكن أنْ تكون مُحصّنة بالحبّ العميق، رغم ما يعترضها من مشكلات، كالنقص في إشباع الرغبات الجنسية، أو ما يخترقها من خيانات ورغبات مدفونة.

في الفيلم، 3 شخصيات: زوجان في منتصف العمر، وشاب يافع وسيم. الزوجة مينا الزوجة (لبُنى أزبال) تُدير محلاً للملابس التقليدية المغربية، التي أصبحت مهنة نادرة. زوجها حليم (صالح بكري) خيّاط ماهر، يُمكن وصفه بمَثلٍ يقول: "أنامله تُلف في الحرير". أداء تمثيلي لبكري يُضاهي عمالقة فنّ الأداء في العالم. تُدير مينا المحل بمهارة وكياسة، رغم أنّ المهنة إلى انقراض، فالتكنولوجيا الحديثة تنافسها، خاصة في سرعة الإنجاز. لكنّ الزوجين يُصرّان على المقاومة، مع بحثٍ عن مُعاون لهما. يأتي يوسف (أيوب ميسيوي)، الذي يسري تيارٌ خفي، بسرعة، بينه وبين حليم، تشعر مينا به فوراً، وتكون حاسمة في غلق الباب أمامهما. ثم تبدأ في اختراع حججٍ لطرد يوسف. تُعاودها آلام المرض الخبيث، فتصبح المحنةُ، وملابساتها وتفاصيلها المؤلمة، طريقاً إلى المطهر، الذي يجمع الثلاثة معاً، مُجدّداً.

المحنة هذه جسر، يعبره الجميع للتطهّر والاعتراف. مينا تعترف ليوسف بأنّها عثرت على الثوب الوردي الذي اتهمته بسرقته؛ ويبكي يوسف طويلاً وبحرقة؛ ثم يعترف لها حليم بخطيئته، التي تُشعره بالذنب تجاهها، وبمحاولاته، كلّ عمره، أنْ يتخلّص من ميوله المثلية، من دون أنْ ينجح. يعترف بأنّه كان يخشى أن يجلب لها العار، ويُسبّب لها الفضيحة، فيطلب منها المغفرة. هذا يُفسّر ربما، وإن جزئياً، انكسار حليم وخوفه من رموز السلطة، خاصة في مشهد المواجهة، عند عودته بصحبة مينا ليلاً. في الاعتراف، أداء صالح بكري يُبكي، وأداء لبنى أزبال يُضاعف البكاء، حين تجثو على ركبتيها، رغم الألم الذي يمزّقها، وتقول: "أنا كلّ عمري كنتُ فخورة بك. أنتَ إنسان نبيل، وزينة الرجال. يا حليم، لا تخشى أبداً من الحبّ".

بعيداً عن مشاهد الحبّ، المنسوجة برقّة هامسة تستند إلى الإيحاء، أجملُ ما في "القفطان أزرق" أنّ الشخصيات تتصرّف وفق منطقها، كأنّها انفصلت عن السيناريو (مريم توزاني بمعاونة نبيل عيوش)، وصارت تتحرّك من تلقاء نفسها. تساؤل يُطرح: ما الذي يجعل رجلاً مثلي الجنس يُبقي على زواجه من تلك المرأة، ويُكنّ لها كلّ هذ الحبّ، رغم أن رغباته تميل إلى الرجال؟ جملة واحدة يقولها، تُغلق التساؤل: "أمّه ماتت أثناء ولادته، وأبوه يحتقره ويُقلّل من شأنه، إلى أن جاءت مينا ومحت كلّ شيء، وغفرت له، وشجّعته، ومنحته الثقة بنفسه. إنّها امرأة كالصخرة".

 

 

هذا لا يُفسّر فقط سرّ بقائه إلى جوارها، خاصة في محنتها، والحبّ العميق الذي يُكنّه لها، وعدم اعتراضه على تلبية رغباتها الجسدية، حتّى وإنْ كان هو لا يريد. لكن أيضاً، منذ تلك اللحظة، تظهر حقّاً أنّها امرأة كالصخرة، بفضل أسلوبها في التعامل مع آلامها المبرحة، كمريضة سرطان استأصلت ثديها، وإخفاء آلامها، وتسامحها الكبير، ورغبتها وإصرارها على التمتّع بكلّ قطرة من الحياة، كالرقص والاستمتاع بأغاني صالون الحلّاق أسفل بيتها، والإصرار على الذهاب إلى المقهى لشُرب شاي بالنعناع أو الزعفران، ثم طلبها تجريب السيغار، أو أنْ تقف فجأة، وتهتف بحماسة "غووول"، بينما حليم يرمقها طويلاً بدهشةٍ مختلطةٍ بشعور الحرج قليلاً، قبل أنْ ينفجر في الضحك كالأطفال.

لا شيء كبيراً يحدث في "القفطان أزرق". تفاصيل صغيرة، لكنّها غارقة في الإنسانية والمشاعر، وكاشفة عن تيارات تحتية تُعبّر عن حبّ مدفون، ورغبات يتمّ إخفاؤها أو مقاومتها. فالصراع الحقيقي يبدو في محاولات إخفاء الحبّ، أو الحفاظ عليه، في فيلمٍ سينمائي دافئ ورقيق ومؤلم عاطفياً، لكنّه لا يبلغ المأساة أو الرثاء، إذْ كلّما أبكى بحزنٍ، يُغرق مشاهديه في ضحكٍ متفجّر من قلوبهم. دعابة مرحة وساخرة، مُتبادلة بين مينا وحليم، تُغلّف علاقة أحدهما بالآخر، وهذه من أكثر العناصر سحراً في فيلمٍ مُطرّز بعناية وإحساس غير عادي.

فيلمٌ آخر بعنوان "حرقة"، للأميركي مصري الأصل لطفي ناثان. أمران مهمّان فيه: مضمونه، الذي يُصوّر بقسوة لماذا يحرق الشباب أنفسهم في بلدٍ يأكلهم نفسياً وجسدياً؛ وإعادة اكتشاف الممثل آدم بيسه، المُشارك سابقاً في "الموصل" (2019)، لماثيو مايكل كارناهان. في "حرقة"، يُقدّم بيسه دوراً تاريخياً في سيرته المهنية، كاشفاً عن موهبة غير عادية، بتأديته شخصية شاب له نفسٌ أبيّة وعزيزة، يحترق من الداخل، بانتظار مستقبل أفضل. أحداث "حرقة" مُستلهمة من شخصية محمد البوعزيزي (1984 ـ 2011)، الذي أشعل الثورة التونسية بحرقه نفسه. لكنْ، إنْ قامت الثورة وتفجّرت بقوّة عقب هذا الحريق، فإنّ بطل لطفي ناثان، عندما أحرق نفسه، بدا كطيفٍ أو شبحٍ لا يشعر ولا يهتمّ به أحد.

علي شابٌ يُخطّط للهجرة، هرباً من الواقع القاسي في بلده. يجمع نقوده، ويحرم نفسه من الطعام، استعداداً لذلك. يبيع البنزين بطريقة غير مشروعة، ويبتزّه رجال البوليس، فيدفع لهم "ضرائب"، كي يغضّوا الطرف عنه. قطع الاتصال مع عائلته، لكنْ، عندما يتلقّى خبر وفاة والده، يعود إليها، ويتحمّل مسؤولية شقيقتيه الصغريين، فالبيت الذي يؤويهما مُهدّد بالضياع منهم بسبب ديون الأب. يضطرّ علي للعمل التهريب على نطاق أكبر، ما يقوده إلى مزيد من الاحتراق، ويُعجّل بنهايته.

ثالث الأفلام العربية، "تحت الشجرة" (عنوانه باللغة الإنكليزية "تحت شجر التين")، أول تجربة روائية طويلة للتونسية أريج السحيري، يقترب من الوثائقيّ لشدّة صدقه وتلقائية أداء ممثليه. تدور أحداثه في يومٍ واحد، في موسم حصاد التين، مع شباب وشابات تونسيين يقطفون التين، والعلاقات الشائكة والمرتبكة بين الجنسين. يحكي عن الحبّ الرومانسي والأفلاطوني، وعن رغباتهم وأفراحهم ومخاوفهم وطموحاتهم في الحياة، في ظلّ قيود المجتمع الأبوي.

أفلامٌ قصيرة عدّة شهدت، بدورها، تفاعلاً كبيراً في "مهرجان كارلوفي فاري"، كـ"ورشة" لدانيا بدير، الذي عُرض في 60 مهرجاناً، وفاز بـ19 جائزة، في 6 أشهر فقط: عاملٌ شاب يُدعى محمد، يتطوّع، صباح أحد الأيام، للصعود في أطول الرافعات وأخطرها في بيروت. رغم الخوف والذعر من الارتفاع الشاهق، يتحرّر محمد من مخاوفه، ويُمارس رغباته المكبوتة، وشغفه السرّي.

المساهمون