أغنية "راجعين": ألا تخاف السياسة ولا "الطوفان"

19 نوفمبر 2023
شارك 25 فناناً عربياً في الأغنية (فيسبوك)
+ الخط -

بعد أقل من شهر من عملية طوفان الأقصى، قدّم 25 فناناً عربياً أغنية "راجعين"، التي "سيتم التبرع بجميع إيراداتها لصالح صندوق إغاثة أطفال فلسطين"، كما يوضح التنبيه تحت الفيديو على موقع يوتيوب.
يصعب تقييم الأغنية فنياً، في وقت تتواصل المقتلة الفلسطينية، بالعنف نفسه، وبقسوة متصاعدة، تجعل من التعامل مع أي عمل فني، مهمة شبه مستحيلة، خصوصاً في إطار النقد الموسيقي. لننهي النقاش النقدي إذاً بالقول إن الأغنية نفّذت على عجل، كما هي الحال مع الأغاني الحدثية التي ترافق الحروب والأحداث المأساوية الكبرى (الثورة السورية، انفجار مرفأ بيروت، جرائم الاحتلال في حي الشيخ جراح...).
ما يهمّنا هنا، في السياق السياسي والإنساني الفلسطيني الحالي، هو ما تقوله الأغنية، ولعلّ هذا تحديداً ما يجعل من "راجعين" أغنية جيدة. رغم هدفها الإنساني، أي جمع تبرعات لأطفال غزة، فإن الأغنية سياسية بحتة. فلا هي أغنية إنسانية عن "السلام" و"المحبة" والتعايش"، والوطن بمفهومه الفضفاض في مختلف الأغاني العربية، ولا هي أغنية ندب وشحذ تضامن، أو مناجاة.
وضوح الأغنية، في خطابها المباشر (جداً)، مبهر، مقارنة بالأغاني السياسية وتلك الوطنية منذ تسعينيات القرن الماضي. تعود "راجعين" بنا إلى الأصل، إلى عام 1948، إلى النكبة، وتقودنا إلى "طوفان الأقصى". فلسطين هي كامل التراب، هي "بلادنا إلنا من بحر لنهر" (الفلسطينية الأردنية دانا صلاح، الدقيقة 0:29)، وإلى هذه البلاد سيعود الفلسطينيون، وهو ما تذكّر به الأغنية في سياقها الكامل "مفتاح البيت بقلبي وأنا راجع وبإيدي ولدي" (الفلسطيني الأردني عصام النجار، الدقيقة 1:43)، و"صبراً جميلاً العدو سيزول" (التونسي بلطي، الدقيقة 2:17).
يرتفع سقف الكلام، مع تقدّم الأغنية، ومدّتها 8:30 دقائق، فتتضح هويتها، والخطاب الذي تنقله. تتماهى الأغنية مع الواقع الغزي، ومع الغزيين، ومع صرخاتهم التي ملأت الشاشات ومواقع التواصل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي: "كل يوم بحكولي صبري سلاحي، وآخر صبري الموت" (الفلسطيني الأردني سيف شروف، الدقيق 1:21)، "إلهي رفعت يدي إليك بأن تفك كربي وهمي وأنت المستجيب" (المصرية دينا الوديدي، الدقيقة 3:26)...
وعلى امتداد الأغنية، تذكير متواصل بتواطؤ العالم على غزة، وتواطؤ الأنظمة الغربية والعربية، والإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي: "حتى نحكي لا ممنوع، سجن حدود وسجن بتعذيب" (السورية غالية، الدقيقة 0:43)، "وأنا واقف وحدي، العالم ضدي" (الأردني الأخرس، الدقيقة 1:34)، "حرية كدابة، عالم استبدادي" (السعودي اليونغ، الدقيقة 4:16)، "كاع لي كايقول الصراحة كا يقطعوا له الصوت (أي شخص يقول الحقيقة يقطع صوته)، بنادم ولا خايف يدوي لا يحبسوله الكونط (إمتنع الجميع عن الكلام خوفاً من حذف حساباتها)" (المغربي سمول إكس، الدقيقة 4:44)...


ثمّ مع دخول الأغنية في نصفها الثاني، تنقلنا إلى المقاومة. وهنا شجاعة "راجعين"، شجاعة مَن كتب الكلام، ومن أداه، ومن لحّنه. في وقت يحاول العالم، والمنظمات والناشطون في الغرب (وفي العالم العربي) نقل الكلام عن غزة نحو صورة الفلسطيني الضحية، ضحية ضعيفة متلقية للعنف حصراً، ترفعنا الأغنية إلى مكان آخر تماماً: "قلبي نضيف وما يصفى حتى ناخد في ثار المستشفى" (التونسي علاء A.L.A، الدقيقة 4:55)، ثمّ "سأقاوم وجمع تلاقينا، بطوفاني أجول وأحميها" (الليبي فؤاد القريتلي، الدقيقة 5:09). "طوفاني" بهذا الوضوح لا تتردّد الأغنية، بالإشارة إلى عملية طوفان الأقصى التي نفذتها كتائب القسام في السابع من أكتوبر، رغم كل الحذر الذي يشوب مواقف الشخصيات العامة العربية عند الحديث عن غزة، إذ يتجاهل أغلبهم الإشارة إلى "الطوفان" كفعل مقاومة. بينما يردد المصري مروان موسى "فدائي فدائي فدائي" (الدقيقة 6:14) مرتدياً الكوفية ورافعاً علم فلسطين. في أي سياق آخر قد يكون هذا المشهد مجرد تكرار لكليشيه متداول منذ سنوات طويلة. لكن بعد 45 عاماً على اتفاقية كامب ديفيد، وبعد 39 يوماً من تقاعس النظام المصري عن فتح معبر رفح، ورضوخه لكل ضغوط الاحتلال، ليس عشوائياً ولا كليشيه أن يقف رابر مصري عمره لا يتجاوز 28 عاماً ليردّد "فدائي فدائي فدائي"، مستعيداً ربما كلمات الشاعر محمد حمزة التي كتبها لعبد الحليم حافظ عام 1967 بعد النكسة، ومستعيداً ربما أيضاً النشيد الوطني الفلسطيني.
كليشيه آخر، مضحك خارج سياق الأغنية، لكنه في هذا العدوان، وأمام هذا الفجور الغربي في التطبيع مع نزع الإنسانية عن الفلسطيني يبدو في مكانه وزمانه: "Sorry إني مش اوكرانيا، Sorry إنه بشرتي مش بيضا" (الفلسطيني عمر رمال، الدقيقة 4:01).
في نهاية الأغنية، تبدأ دينا الوديدي بترديد "لو رحل صوتي ما بترحل حناجركم" ثمّ ينضم إليها باقي الفنانين. العبارة استعادة لأغنية الفنان السوري سميح شقير، تنتهي فيها الأغنية، والفيديو الخاص بها، مع عبارة "نحن لا نتضامن مع القضية نحن أصحابها".

قد يكون إعطاء "راجعين" أبعاداً كثيرة، مجرّد لحظة عاطفية أمام عجزنا تجاه غزة، وقد يكون إعلان انتماء إلى جيل مختلف، جيل 2011 وما بعده، وتمايزاً عن جيل النكسة والهزيمة وموروثاتها، الذي يقف على المسرح يغني ويرقص بحجة ان "الحياة تمضي"، وينتقد محمد سلّام على موقف شجاع. تمايز بين جيل "الحلم العربي" وشعاراته اللاسياسية عن الحلم والطموح والأبواب المغلقة "اللي يفتح لها الحب باب"، وبين جيل "راجعين" الذي يردد وسط المجزرة ووسط تواطؤ العالم "أنا مش ماشي، أنا في مكاني، على خط النار، كل ليل ونهار، ولو هموت في إيدي سلاحي".

المساهمون