أشجار الزيتون الفلسطينية... لو لم تمسسها نار الاحتلال

11 يونيو 2024
في قرية بلعين قرب رام الله، إبريل 2007 (عباس المومني/ فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الزيتون في فلسطين يمثل رمزًا للهوية والتراث، حيث استخدم ياسر عرفات غصن الزيتون كرمز للسلام والصمود في الأمم المتحدة، معبرًا عن النضال بين السلام والمقاومة.
- الاحتلال الإسرائيلي استهدف أشجار الزيتون في محاولة لمحو الهوية الفلسطينية، قاطعًا واقتلع ملايين الأشجار وزرع أنواعًا غريبة لتغيير المشهد الطبيعي ومحو الذاكرة الجماعية.
- الزيتون يعكس قدرة الفلسطينيين على الصمود والتكيف، ورغم محاولات الاحتلال لطمس الهوية بتدمير واستبدال أشجار الزيتون، يبقى الزيتون رمزًا للحياة والأمل والتجدد في الثقافة الفلسطينية.

أمرٌ لافت ذلك الارتباط الوشيج بين الثقافة الفلسطينية وشجر الزيتون، الذي وصل إلى حدّ أن يكون الزيتون بأغصانه وأوراقه وثماره رمزاً للبلاد التي يمحو جلّادها كل تفاصيلها، ويستبدلها بأخرى لا ترتبط بذاكرة الأرض. عام 1974، حمل الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات غصناً من الزيتون في مؤتمر جمعية الأمم المتحدة في مقرّها في نيويورك، وناشد من خلال منبرها: "لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي"، مكرّراً هذه العبارة التاريخية ثلاث مرات، إلا أنه سبقها بعبارة تجعل لهذا الغصن تأويلات أخرى: "جئتكم وبندقية الثائر في يدي، وفي يدي الأخرى غصن الزّيتون".

غصن الزيتون الأخضر الذي حمله أبو عمار هو استعارة عن الأرض الفلسطينية، أو لنقل إنّه اختزال بلاغي لها. وفي اقترانه بالبندقية تعبيرٌ عن جدليّة الكفاح المسلح والأرض. خلال العامين التاليين لكلمة ياسر عرفات، اقتلع جيش الاحتلال الإسرائيلي نحو مليون ونصف مليون شجرة زيتون من الأراضي المحتلة. هكذا، يحاول الاحتلال أن يمحو ذكر الشجرة الفلسطينية عن الوجود، ويمحو معها الذاكرة الفلسطينية الراسخة جذورها كما شجر الزيتون.

من البديهي أن يشنّ الاحتلال حملة ضد الشجرة التي ترسم جغرافيا فلسطين، في إطار عملية التطهير العرقي التي بدأت قبل النكبة بأعوام. ففي سعيه المستمر إلى التدمير، عزم الاحتلال على تغيير المشهد الطبيعي في فلسطين، وبطبيعة الحال، من ضمن هذا التدمير، سحق الطبيعة التي تعبر عن الفضاء الجغرافي وشكّلت هوية سكانه وارتباطهم بأرضهم.

في أغسطس/آب من عام 2021، اشتعلت حرائق كبيرة في جبال القدس، وبعد أن أخمدت كاملةً، كشفت عن صورة مهيبة، هي بقايا معالم وأطلال القرى الفلسطينية التي مُحيت في عام النكبة (1948). باتت كل قرية منها تحمل اسم المستعمرة الإسرائيلية التي بُنيت على أنقاضها، وسُمّيت بأسماء قريبة من القرى الأصلية، في إجراء كولونيالي يتقنه الاحتلال الإسرائيلي. كشفت الحرائق التي التهمت جبال القدس ما تخفيه إسرائيل تحت القشور الاستعمارية التي تتجلى بالأشجار التي زرعت أغلبيتها بعد عام 1948، بادّعاء أن أراضي فلسطين قاحلة مُقفرة وجاء الاحتلال ليزرعها، بينما كانت هذه الأراضي زراعية تعود ملكيتها إلى الفلاحين الفلسطينيين. ومما أفصحت عنه الحرائق هو المدرجات في جبال القدس، التي يغلب الظن بأنها موجودة في المنطقة منذ أكثر من 400 عام. وهذه منحدرات كانت تساعد المزارعين الفلسطينيين لمنع انجراف التربة، وتجميع المياه لسقاية أشجار الزيتون.

تدمير أراضي الزيتون ليس وليد السنوات الأخيرة، إنما يعود إلى ما يتجاوز 100 عام، بالتحديد مع مجيء الاستعمار البريطاني الذي جلب معه المؤسسات الصهيونية، التي بدورها مأسست هجرات مَن قرروا تغطية مساحات كبيرة من فلسطين بمشروع تشجير، فزرعوا الصنوبر بهدف توفير فرص عمل للمهاجرين اليهود في البداية.

يقول الفنان التشكيلي ناصر سومي في كتابه "فلسطين وشجرة الزيتون: تاريخ من الشغف"، الذي ترجمه عن الفرنسية هيثم الأمين، إن ظروفاً مناخية مؤاتية في أوائل الألف الخامسة قبل الميلاد، سمحت بتدجين الكرمة وشجر الزيتون في فلسطين، فالنور الذي يتطلبه الزيتون متوفر في هذا البلد، وشجره يقاوم الجفاف ويتحمل البرد، وهذا ما يعلل اعتبار "فلسطين بيت شجرة الزيتون".

إلا أن الاحتلال الإسرائيلي الذي هاجم كل مفردات الهوية الفلسطينية اقتلع الشجرة، واستبدلها بأشجار الصنوبريات التي لا تتلاءم مع مناخ فلسطين. جُلب الصنوبر من خارج فلسطين لأن طبيعة الأرض لا تتجانس مع هذه الأشجار، وذلك في محاولة محاكاة الطبيعة الأوروبية الباردة، في سبيل زعزعة الارتباط واختلاق غربة بين الفلسطيني وأرضه. زرع الاستعمار الصهيوني هذه الأشجار في سياق محاولاته إحداث اندماج بين المستوطنين الأوروبيين، وطبيعة الأراضي المحتلة، حتى يشعر المستوطن الصهيوني الأوروبي أنه لم يبرح البلاد التي أتى منها، فلا يشعر بأية غربة بيئية ومناخية في فلسطين.

بإمكان العربي حين يقلّب في صفحات ذاكرته أن يسترجع صورة شاهدها عبر وسائل الإعلام، لرجال ونساء فلسطينيين يبكون أشجارهم التي اقتلعتها الجرافات الإسرائيلية، أو أحرقتها نيرانهم، وهو مشهد مكرّر في ما يشبه العود الأبدي، فاغتيال الأرض وثمارها يعني حرمان الفلسطينيين من رزقهم وقوت يومهم. مشاهد كهذه لا تقل وحشيةً عن المذابح التي اقترنت بتاريخ دولة الاحتلال، بل تصبّ في صلب سياسة التجويع التي يتبعها الاحتلال إسرائيل، سواء في إحراق الأراضي المثمرة، أم باقتلاعها بالجرافات، أو بحصار الفلسطينيين ومنعهم عن الغذاء والماء وكل مقومات العيش.

في قصيدة الشاعر الفلسطيني محمود درويش "عن الصمود"، يقول: "لو يتذكر الزيتون غارسه لصار الزيت دمعاً". إنها صورة شعرية مستقاة من علاقة الفلسطيني بأرضه، ولكن الحقيقة أن بكاء الأشجار أصحابها سيتبعه بكاء أصحاب الأرض الأشجار المقتلعة عنوة من عمق أرض فلسطين.

وكما استوطن الاحتلال في أرضٍ لا يملك حقاً بها، أتى بأشجار لا تتلاءم ومناخ فلسطين، فاجتثّ البشر والشجر الأصليين وقايضهم ببنية اجتماعية ومناخية هجينة.
يذكر سومي أن اليهود امتلكوا، عام 1945، نحو 700 هكتار من حقول الزيتون، فاقتلعوها وزرعوا مكانها دوار الشمس والفول السوداني. أما بعد النكبة، فزرع الاحتلال غابات الصنوبر التي تشكّل 90% من الغابات في الأراضي المحتلة، حلّت محل القرى الفلسطينية المدمرة التي ارتكبت فيها العصابات الصهيونية المجازر الجماعية والتطهير العرقي. فالتطهير العرقي ليس استبدال شعب بآخر وهوية بأخرى فحسب، بل ارتكاب جرائم ديمغرافية وطوبوغرافية أيضاً، إنه إزالة آثار أصحاب الأرض وخلق عالم قائم على أنقاض المنازل وجثث السكان ورماد الأشجار.

بين عامي 1947 و1949، أصبح ما لا يقل عن 750 ألف فلسطيني من أصل 1.9 مليون نسمة لاجئين خارج حدود الدولة. وكانت القوات الصهيونية قد استولت على أكثر من 78% من فلسطين التاريخية، ومارست تطهيراً عرقياً، ودمرت نحو 530 قرية ومدينة، وقتلت 15 ألف فلسطيني في سلسلة من الفظائع الجماعية، بما في ذلك أكثر من 70 مذبحة.

وإبان النكسة أو حرب الأيام الستة عام 1967، طردت إسرائيل سكان عمواس، وهي قرية فلسطينية شمال غرب القدس، واستولت عليها بعد أن أخلتها من سكانها ودمرتها. واليوم، دُفنت بقاياها، إلى جانب ثلاث قرى أخرى، تحت أشجار الكينا والبلوط غير الأصلية، وأصبحت جزءاً من متنزه أيالون كندا، ولم تتبق آثار لسكانها الأصليين.
يقول سومي إنه في عام 1950 صودر نحو 137 ألف دونم من الزيتون في الدولة اليهودية الجديدة، وقد قطع الاحتلال منها 30 ألف دونم واستبدلها بزراعات أخرى. ويقدر أن 73% من مالكي الزيتون هم من الفلسطينيين الصامدين في أرضهم بعد حرب 1948، وينتجون نحو سبعة آلاف طن من الزيت سنوياً.

وأدى جدار العزل إلى فصل المزارعين عن أرضهم. ويحصي الباحث عدد الأشجار المقتلعة من الأراضي الفلسطينية ما بين أكتوبر/تشرين الأول وسبتمبر/أيلول 2008 ما يتجاوز مليون و600 ألف شجرة.

يعود ارتباط فلسطين بأشجار الزيتون إلى ما قبل الميلاد. يقول اليونانيون في أساطيرهم إن "هرقل غرس عصاه في الأرض فتحولت إلى أشجار زيتون زاهية، فجدل أغصانها تاجاً يتوج به رأس الرابحين". أما الرومان الذين أتوا غزاةً إلى فلسطين فاهتموا بثمار أرض فلسطين، من الكرمة والزيتون. يتحدث المؤرخ الروماني أميانوس مارسيليانوس الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد عن أن "فلسطين بلد يمتلك العديد من المزارع المتقنة".

ليس من المستغرب أن يعيش الفلسطينيون المقتلعون من أرضهم في كنف ثقافة الأشجار المثمرة التي تنبتها بلادهم، وباتت في مروياتهم الشعبية. هذه الشجرة التي لقبوها بـ"شجرة النور" اقترنت بوعي الفلسطينيين بهويتهم، وكذلك ارتبطت بالقصص المقدسة التي تتناول الأنبياء، يشهد على ذلك جبل الزيتون في القدس، إذ يظن أن الشجرات تعود إلى عهد السيد المسيح، وفي باحة المسجد الأقصى، زيتونة مقدسة يعتقد المسلمون أنها نبتت من بذرة رماها النبي محمد حين زار القدس، كما يستخدم زيتها لدفع النذور، كما حضرت شجرة النور في الأمثال الشعبية، حضر الأدب والشعر رديفاً للهوية.

المساهمون