أحمد عبدالله السيد (2/ 2): "فكرة الزمن أساسية في منهجية تفكيري"

23 ديسمبر 2022
أحمد عبدالله السيّد: لا أحب السينما الرمزية (غاريث كاترْمُل/Getty)
+ الخط -

 

(*) بدأت حياتك السينمائية مونتيراً. متى قرّرت أنْ تُصبح مخرجاً؟ منذ تقدّمك إلى "معهد السينما"، كنت تفكّر في ذلك؟

تقدّمت إلى قسم الإخراج، لكنّي رُفضت. بعد ذلك، جاءتني فرصة تعلّم المونتاج. حينها، كان "نان لينير إيدتنغ" قد دخل مصر حديثاً، أو قبل فترة قصيرة، في التسعينيات. كنت مُراهقاً، أبلغ نحو 16 عاماً. بدأت أتعلّم وأحاول تركيب الأشياء على بعضها، وأتعامل مع الكمبيوتر (Windows). كانت أول مرة يتوافر فيها "كارت فيديو"، فحاولت تغيير الصورة. لم يكن هناك إنترنت قوي، كما هو متاح بشكله الحالي. علّمت نفسي المونتاج، والناس كانوا مهووسين بمونتاج "نان لينير"، ويُريدون تعلّمه والتعرّف إلى المزيد عنه.

 

(*) بدأت مونتيراً لأفلامٍ ناجحة جداً. لكنْ، عندما تُخرج بعض أفلامك، لنْ أقول كلّها، تُشرك معك مونتيراً آخر. لماذا؟ هل ترى أنّ عيناً إضافية معك على الفيلم أفضل؟ أم ماذا؟

إضافة إلى ذلك، أحبّ تجريب أشياء عدّة في السينما. أفلامٌ لي كتبتُ لها السيناريو، وأخرى كتبها آخرون وأخرجتها أنا. هناك أفلام صوّرتها بنفسي، كـ"ليل خارجي"، وهناك أفلامٌ عملت فيها مع مُصوّرين آخرين. أفلامٌ لي ولّفتها بنفسي، كـ"هليوبوليس". أحبّ دائماً أنْ تكون هناك عينٌ أخرى في الفيلم، أو أنْ أُجرّب إدارةً أخرى في صنعه. مع ذلك، لو أستطيع أنْ أقلّل مساهمتي في الفيلم، سأفعل ذلك. لو أنّ هناك شخصاً يستطيع التعبير عن هذه الشخصيات، وعن حالة أريد كتابتها، سأترك له السيناريو، كـ"ليل خارجي". عندما أعطاني شريف الألفي السيناريو، قرأته، ثم قلت له: "لديّ أفكار بسيطة عدّة". في ذلك الوقت، كانت هناك تساؤلات تُشغلني طرحتها عليه، فكتبها واشتغل عليها وأعاد الكتابة.

 

(*) في فبراير/ شباط 2022، نظّمت معرضاً فوتوغرافياً، أخبرتَني أنّ عنوانه "مخادعة الوقت". ألا ترى أنّ هناك تماساً بين فكرة "مخادعة الوقت" في المعرض الفوتوغرافي والزمن في "19 ب"؟

مشغولٌ دائماً بفكرة الزمن. ربما عملي كمونتير ومخرج جعل الزمن أساسياً في منهجية تفكيري. السنّ تلعب دوراً في هذا أيضاً. الزمن في فترة "كوفيد 19" من أكثر الأشياء التي تُشغلني: الإنسان يكبر في السنّ، والزمن يمرّ، وهذا يولّد تساؤلات عن علاقتنا بالزمن، وكيف تتغيّر الأشياء والأماكن حولنا، وكيف نصبح قادرين على التعامل مع هذا التغيير، ومع هذا الخوف من التغيير. هذه الهواجس كلّها موجودة في مرحلة الكتابة.

"مخادعة الوقت" له علاقة شخصية بعلاقتي أنا بالزمن.

 

(*) أعود مرة أخرى إلى الرموز والإسقاطات في "19 ب". العقار/ الفيلا يرمز إلى مصر، بأهلها المُسافرين إلى الخليج، الذي ربما يرمز إلى الطبقة الوسطى التي تخلّت عن دورها.

هذا ليس تخميناً، بل أشياء قيلت في الفيلم. الفيلا مهجورة، تركها أهلها الذين باتوا يعيشون في الخليج، ولا نعرف طريقاً إليهم. هذا واقع موجود في الأحياء القديمة، وفي مصر الجديدة. أنا مثلاً أسكن في "غاردن سيتي". هناك بنايات مهجورة كثيرة ليس لها أصحاب. فعلياً، لا أحد منّا يعرف أصحاب هذه البيوت. هذا حدث لمنازل كثيرة، قد يكون لها أصحاب سرّيون لا نعرف عنهم شيئاً. بيوت مغلقة منذ خمسينيات القرن الـ20 وستينياته وسبعينياته، ولم تُفتح أبوابها قط. هذا واقع. الإسقاطات والرمزية لم أفكر فيها قطّ. أحياناً، ألتقي أناساً يقولون لي قراءات مختلفة. مرّة، قال لي أحدهم: "هذه مصر"، وآخر قال: "هذا تعبير عن الصراع بين إسرائيل وفلسطين". للناس دائماً قراءات مختلفة، لا أستطيع أنْ أحجر عليها، طالما أنّ كلّ واحد يقرأها هكذا، ويستمتع بها في المُشاهدة، وقراءته متماشية مع ما يراه. لا مشكلة. أرى هذا صحّياً.

 

(*) مؤكّد أنّ لديك هموماً وتساؤلات تُشغلك بخصوص هذا البلد، لذا يصعب أنْ أصدّق أنّ أفلامك لا تُحمّلها بعض هذه الرموز والإسقاطات، حتّى وإنْ أنكرت أنت هذا، خاصة أنّك تُفضّل أنْ تُضمّن أفلامك أشياء غامضة، أو أنْ تقولها همساً.

لا. أنا لا أنكرها. بالعكس. ما أودّ قوله أنّي لا أحبّ السينما الرمزية. هذا ذوقي الشخصي. لا أحبّ كتابة أنّ هذه ترمز إلى مصر، وهذا يرمز إلى مَنْ دمّر مصر. لا أحبّ هذا الأسلوب. صحيحٌ أنّ في السينما جزءاً كبيراً لا يُقال، لكنّ هذا لا يعني أنّه رمزي، أو غائب، أو مخفيّ، أو أنّه لم يتمّ قوله حتى يُكمِل الناس القصّة. هذا الغموض ليس من أجل الرمزية، بل لإخبار القصّة أو حكيها، أي Story Telling.

مثلاً، لستُ معجباً برمزية سينما صلاح أبو سيف. لا أقصد التقليل من شأنه، لكنّي غير مُعجبٍ بهذا الأسلوب.

 

(*) إذاً، لماذا تصنع السينما؟

لستُ معنياً بصناعة السينما فقط. أنا أحبّ الفن، عموماً. أرى أنّ الفن وسيلة تعبير مملوكة للجميع، لذا أنا ضد احتكار النقابة لتصريحات التصوير. برأيي، يُفترض بجميع الناس أنْ يصنعوا أفلاماً، وأنْ يُصوّروا ويرسموا، والجمهور يختار. ربما ستسألين: ماذا عن الموهبة الضعيفة؟ برأيي، هذا ليس إشكالاً. المهم أنْ نترك الفرصة للجميع. هذا جزءٌ من لعبة الفنّ. هناك أناسٌ موهبتهم متواضعة، لكنْ لديهم "حدوتة" يُريدون إخبارنا بها، أو لديهم شيءٌ يُريدون أنْ يصل إلينا. أحبّ أنْ أكون أحد هؤلاء الآلاف الذين يملكون هذا الحق، الذي يجب أنْ يُمنح للجميع.

 

(*) تقول إنّك تُحبّ أنْ يكون كلّ فيلمٍ مختلفاً عن الآخر، وأنْ تضيف شيئاً جديداً إلى كلّ عمل. فهل هناك تحدّ ما يُسيطر عليك، تقني أو فكري، عندما بدأت العمل على "19 ب"؟

التحدّي أنّي أحاول الابتعاد قدر المُستطاع عن الفيلم السابق. أتساءل عن الفيلم السابق، وماذا عملتُ فيه. ثمّ أفكّر بصنع عمل أبعد ما يكون عنه. مثلاً: عملتُ "ميكروفون" من دون لحظة صمت. إنْ لم يكن هناك حوار، تجدي أغاني. المُشاهد الأجنبي سيقرأ طوال الفيلم ترجمة مكتوبة. بعده، أنجزتُ "فرش وغطا"، ذهبتُ فيه إلى منطقة أبعد كثيراً. بعد "ميكروفون"، فكّرت أنّي لا أريد استخدام الحوار في فيلمي المقبل، بل الاعتماد على أشياء أخرى، سواء نجح أو لا. قد ينجح في جزء، قد لا ينجح في أجزاء أخرى. هذا شعورٌ أحبّه. في كلّ مرة، أحاول تجربة أشياء جديدة، أبعد ما تكون عن الفيلم السابق. صحيحٌ أنّ هذا قد يزعج الجمهور، لأنّه يُريد مشاهدة شيء أحَبَّه قبلاً، فيُصاب بالإحباط أو الاستياء. هذا حدث مع "فرش وغطا"، لأنّ الجمهور توقّع رؤية شيءٍ مُشابه لفيلمي السابق، رغم أن الجمهور لو شاهد الفيلم ومخرجه يُقدّم عملاً للمرّة الأولى، ربما تقبّله وتعامل معه على أنّه فيلم مستقل بحدّ ذاته.

أحبّ أنْ أفعل هذا بين حين وآخر، والجمهور بدأ اعتياد ذلك.

"ليل خارجي" فيلم طريق. فيلم ملوّن ومجنون، يدور في شوارع القاهرة كلّها. "19 ب" يدور في مكان مغلق، مع أناسٍ مختلفين، وبحركة كاميرا. لكنّ الـ"ستايل" مختلفٌ في كل شيءٍ.

 

 

(*) على عكس مُشاهدين ونقّاد كثيرين، أعجبني "فرش وغطا" كثيراً. أرى أنّ مشكلته تقنية، وجُمل الحوار القليلة جداً لم توظّف تقنياً بشكل مُقنع؟

هذا صحيح، لكنّه أساسي في فكرة اللعبة، لأني كصانع فيلم أجرّب وألعب. في "فرش وغطا"، بعد بداية التصوير بيومين أو 3، قررتُ تغيير الـ"ستايل". مثلاً: إدخال أجزاء وثائقية. عند الذهاب إلى المقابر، بدأ سكّانها يحكون عن مشاكلهم، لأنّهم كانوا يرون الكاميرات. شعرتُ بأنّ دوري ليس تصوير المكان فقط، أو أنْ أحلّ مشاكلهم، بل نقل حكاياتهم. أعدتُ صوغ الشخصيات وبناءها، لتتقاطع مع الشخصيات الحقيقية الوثائقية في المقابر.

أحبّ أنْ أستفيد من الظروف المتاحة، وأنْ أترك نفسي لها، كي أرى كيف تخدمني، وإلى أين ستقودني. أحياناً، يحدث هذا في الأمور التقنية أيضاً. تعلّمت هذا في عملي مع إبراهيم البطوط. مرّات كثيرة كانت هناك لقطات جميلة جداً عنده، تعطيها له المدينة من دون إعداد مسبق. المهمّ أنْ يكون لديك الاستعداد لاستقبالها.

 

(*) كأنها هبة إلهية.

بالضبط. مثلاً: بطل "فرش وغطا" لا يتحدّث. مع ذلك، قلتُ للجميع، ولآسر ياسين: "في أي وقتٍ تشعر بأنّك تُريد أنْ تتكلّم، تكلّم". ركّبتُ له ميكروفوناً في المشاهد كلّها، في واحدٍ منها يتحدّث، إذْ لم يكن طوال الوقت صامتاً، كما تخيّل الناس.

أقصد من هذا أنّ هناك مرونة في إدارة الأمور، والتعامل لا يكون مُحكَماً أو مُتشدداً، بل أتركه مفتوحاً أمام الظروف.

 

(*) هناك 3 ـ 4 أعوام تقريباً بين تحقيق فيلمٍ لك وآخر، بالنسبة إلى أفلامك الثلاثة الأخيرة. حدّثني عن روتينك الحياتي لإنجاز كلّ فيلم: هل تمشي وتراقب الناس، كي ترى بعينيك؟ أم ماذا تعمل في فترة بحثك عن فكرة؟

لا أدّعي أنّي أبحث عن فكرة. كنتُ سريعاً في إنجاز "ميكروفون" و"فرش وغطا". لكنْ، هناك عاما الثورة. ثم "ديكور"، أي بعد عام.

ليس ضرورياً أنْ أمضي 4 أعوام بين فيلمٍ وآخر. صدف ذلك مع الأفلام الـ3 الأخيرة. يتوقف هذا على الظروف وتوافر الإنتاج. أحياناً، أنشغل بفكرةٍ وتساؤلات، إلى حدّ أنّها تؤرقني. لكنْ، بعد مرور عامٍ أو اثنين، أجد نفسي ابتعدتُ عن هذا الفيلم. حصل هذا معي أكثر من مرة: كان يُفترض بالفيلم أنْ يُنجز في هذه اللحظة الآنية، ليعبّر عن حيرةٍ أمرُّ بها، ويطرح تساؤلات عن أشياء معينة. لكنْ، مع مرور الوقت، أشعر بأنّ هذه التساؤلات فات أوانها، وأن هناك أخرى باتت أهمّ وأكثر إلحاحاً. لذلك، تتعطّل أحياناً أشياء، وأبدأ مجدّداً.

 

(*) ماذا عن المشروع الذي تتمنّى تحقيقه، وإن ليس حالياً؟

أبداً لم يكن لديّ مشروع أحلم بالاشتغال عليه. ما يحدث، أنّه بعد انتهاء كلّ فيلمٍ، أميل، لفترةٍ، إلى صنع فيلم آخر، وأنّ لديّ "حواديت" أخرى أريد أنْ أحكيها. مثلاً: في هذه اللحظة، أكثر مشروع أريد العمل عليه مع صديقتي المنتجة قسمت السيد عنوانه "برلين". أريد تصوير فيلمٍ خارج القاهرة والإسكندرية. سأصوّر هذا المشروع في برلين. فيلمٌ مصري عادي جداً، يرتبط بشباب كثيرين، أصدقاء وآخرين أعرفهم، نزحوا إلى برلين في الفترة الأخيرة. فيلمٌ عن حياتهم، وتفاصيل تحدث لهم في الحياة.

المساهمون