آرون سوركين: استفزاز الرقيب الأميركي زمن الماكارثية

23 مارس 2022
نيكول كيدمان: التمثيل تنكّرٌ في جلد شخص آخر (آمي سوسْمان/Getty)
+ الخط -

هذه كوميديا عن كتابة الكوميديا وتصويرها، في Being the Ricardos لآرون سوركين (2021). فيها قدّم الممثلان نيكول كيدمان وخافيير باراديم تطبيقاً ناجحاً لتعريف شارلي شابلن للتمثيل: تنكّرٌ في جلد شخص آخر. فيلم عن مجد المسلسلات، وعصر الرقابة على الفن، في زمن أميركا المكارثية، حامية المسيحية والوطنية. فيلم عن كتابة المسلسلات الكوميدية وتصويرها والرقابة عليها، يطرح إشكالية عظيمة: كيف تجعل الناس يمرحون ويضحكون؟

كيف يمكن استدراج المتلقّي لخداعه ثم إفهامه؟ الجواب: السيناريو ثم السيناريو ثم السيناريو.

لدى الممثلة سيناريست ماهر في استخراج دلالات النظرات وتفسيرها. يعمل تحت ضغط الزمن، ولا يتقبّل ملاحظات علنية من الممثلين على السيناريو الذي كتبه. يتقبّل فقط نقداً هامساً وحميمياً لعمله. بعد الكتابة، تمضي الممثلة وقتاً طويلاً لتحفظ الحوار. توضح منهجها في فهم الدور، وأدائه. تطلب الصمت والتركيز، لأنّه كلّما تكلّمنا أقلّ، سمعنا أكثر. تحاكي الممثلة الوضعيات التي ستؤدّيها مرّات عدة، كي تكون الحركات دقيقة ومُعبّرة، وكي تُحسِن تموقعها أمام الكاميرا. هذا يوفّر لها معرفة عميقة بالدور، تؤهّلها لتُغنِيه. تستخدم العُدّة المتكاملة للممثل: الجسد والصوت والحركات.

تشتغل لوسيل (كيدمان) على مشهد العشاء الأخير. يكتشف المخرج أنّ الممثلة أكثر دقّة وفهماً للدور منه. التمثيل مهنة نيكول كيدمان، وما تقوم به في الفيلم جزء من حياتها. لزيادة الأثر والتحقّق من نفاذه، يجرى التصوير أمام 200 شخصٍ اختيروا من أوساط اجتماعية مختلفة، لقياس ردود الأفعال. يتمّ التركيز على الجانب الطفولي للشخصية، لإثارة ضحك جمهور من طبقات متنوّعة. التنوع الثقافي مفيد للكوميديا. يحتاج المتفرّجون إلى حلقات مستمرة، تُكتَب وتُصوَّر وتُبَثّ وتنجح.

خلف ذلك، هناك جهد وإمكانيات، ومعارك فنية: يقترح السيناريست مهنة للشخصية. تقرّر الممثلة لقاء شخصٍ يمارس تلك المهنة، لتدقِّق معلوماتها. يدّعي الممثل أنّه أكثر قدرة على اكتشاف نقاط عدم تناسق الشخصية في السيناريست، فيقترح تعديلات حين يكون المخرج مُستعدّاً للاستماع، وينفّذها حين تكون شخصيّته قوية. أما حين يخاف الممثل من فقدان الدور، فيُنفِّذ ما يُطلب منه، ويعتبر أنّه لا يتحمّل مسؤولية ما صُوِّر. ممنوع على الممثل إعطاء الأوامر للممثلين والتقنيين أثناء التصوير. يشعر المخرج بالإحراج. الممثلة زوجة منفِّذ الإنتاج. المال يُسمع صوته.

هناك أيضاً معارك إعلامية: كيف تصير الحياة بعد الشهرة والثراء وضغط العمل؟ حربٌ في المنزل، وفي بلاتوه التصوير. ضغط التصوير، والصحافة تكتب عن الخيانات المتبادلة.

فجأة، تُتّهم الممثلة بأنها شيوعية، أي ضد المسيحية والوطن. يتّخذ الاتّهام أبعاداً كارثية، حين يكون زوجها ذو أصلٍ كوبي. تُتّهم، فيحذف زوجها مشهد انتقاد الضرائب في أميركا، للتعبير عن الولاء.

يَعرض الفيلمُ كلفة أنْ يكون المرء فناناً مشهوراً يوجّه الجماهير والدولة والشركات الكبرى. في وضعٍ كهذا، يواجه الفنان العفوي، الذي يقول كلّ ما يفكر به، صعوبات شديدة، لأنّه لا يتلاءم مع تواضعات المنظومة الاجتماعية والسياسية المهيمنة. يستخدم الفنان المشهور وسائل الإعلام، التي تموّلها الشركات وتشرف الدولة عليها، لينجح ويلمع. هذا يعرّضه لأعباء من كلّ صنف.

الكوميديا نقدٌ في عباءة تسلية. مثلاً: كم ساعة يستطيع الفرد أنْ يعيش من دون أنْ يكذب؟ هذا عبء أخلاقي. تتلقّى الممثلة عرضاً لتأدية دور البطولة في سلسلةٍ تلفزيونية، فتشترط أنْ يؤدّي زوجها دوراً. مدير المخابرات يُبرّئ الفنانة. ما التهمة؟ الشيوعية. هذا حاصلٌ في بلد ديمقراطي أُرغم فيه طفلٌ على توقيع تعهّد بالولاء للولايات المتحدة الأميركية.

 

 

المسلسلات موضوع خطر بالنسبة إلى المخابرات. لكنْ، بعد مرور السيناريوهات على رقابة البوليس، تخضع لرقابة رجال الدين. يقول مدير الإنتاج إنّه سيُسلّم السيناريو إلى راهبٍ وحاخام، للتأكّد من خلوّه مما يمسّ المُقدّس. يتوقّع مُلاحظٌ: إذا راجع راهبٌ وحاخامٌ السيناريو، فسيحذفان منه نكتاً كثيرة. قديماً، اعتبر القديس أوغسطينوس المسرح حماقة، وأكّد الفقهاء أنّ الضحك يُميت القلب، ويذهب بنور الوجه. الكوميديا خطرة إذاً. من لم يُثبِت ولاءه لن يحصل على تمويل. تحرص الرقابة على الانسجام الاجتماعي.

بحسب ملفن هيلترز، كاتب "أسرار كتابة الكوميديا"، للإضحاك قيمة ضخمة. ما فوائد الإضحاك؟ أولاً، يجعل مُمارِس الإضحاك مُحترماً، يتذكّره الجميع. ثانياً، يحصل على فائدة: المال.

يضحك المتفرّج بطريقة أفضل عندما تشجّعه المادة الكوميدية على أنْ يُكمِل بنفسه بعض المعلومات الناقصة. يكتشف ويضحك المتفرّج بصوتٍ عال، ليعرف الآخرون أنّه فهم. الضحك مُعد.

لا تتحقّق هذه الأهداف بسهولة. كتابة الكوميديا عملٌ صعب: "من يريدون إلقاء النكات أكثر من الذين (يقدرون على أنْ) يكتبونها" (أسرار كتابة الكوميديا). وبحسب ثيربانتس: "ليس في مقدور كلّ إنسان أنْ يكون فكهاً" (دون كيخوته).

ليس بمقدور أيّ كاتب أنْ يكتب كوميديا. هذا درس للّذين يحضرون لتصوير كوميديا مرتجلة، يكتبها في آخر لحظة كتّابٌ موسميون. الكتابة نسج تفاصيل محسوبة بدقة، لا نتاج ارتجال وحظّ. هذا الفيلم درسٌ لكتّاب سيناريو المسلسلات في كتابة السيناريو، والبروفات التي تؤدّي إلى تعديل السيناريو والحوار كي يصير حواراً مُشبعاً بالقفشات والنبرة والنظرة والإشارة التي ترافق الحدث، فتُغنِيه وتُفسّره. هذا يستفزّ الرقيب.

المساهمون