"يزحفون على بطونهم كالأفاعي
جياع كقطيع كلابِ صيدٍ تُدلّي ألسنتها
لا تقف بوجههم أكثر الجدران ارتفاعاً،
يتغلغلون من أثخنها
كسيل عاصف يهدمون كل ما يمر بهم
يقتحمون البيوت بيتاً بيتاً
لا أبواب تغلق في وجوههم
ولا إعصار يعيدهم من حيث أتوا
لأنهم عبر البوابات يزحفون كأفعى
وعبر مفاصلها يصفرون كريح خبيثة".
هذا جزء من تعويذة بابلية، مأخوذة من نصوص أدبية تشبه في يومنا هذا ما يطلق عليه Demonology، تُذكر فيها قدرات الأرواح الشريرة، والرعب الذي كانت تبثه في القلوب البشرية. وُجدت هذه النصوص في مكتبة الملك آشور بانيبال (669-627 ق.م) الذي يعود إليه الفضل في إعادة كتابة تاريخ بلاد الرافدين، وحفظه في مكتبة قصره الشمالي في العاصمة الآِشورية (نينوى).
لم يسرِ في اعتقاد كتبة هذه التمائم والتعاويذ أنّ الأرواح الشريرة ستنتج مسوخاً أشد خطورة من كل الشياطين التي ذُكرت في رقيماتهم. ففي العاشر من يونيو/ حزيران 2014، تمكن "داعش" من السيطرة على مدينة الموصل، ثاني أكبر مدن العراق بعد بغداد وذات المخزون الأثري الأكبر. العام ذاته الذي تبنت فيه وسائل الإعلام، بكل وكالاتها، بروباغندا "داعش"، في نشر سياسة الرعب، لتمهيد الطرقات أمام مواكب سياراته المحصنة. الطرقات التي عُيّرت بوصلتها حيث منابع النفط والآثار.
مدينة العواصم الآشورية
تقع محافظة نينوى على الجانب الشرقي من نهر دجلة، قبالة مدينة الموصل القديمة. كانت في العصور القديمة تطل على شاطئ نهر الخوصر الذي يصب في نهر دجلة، بعد خروجه منها. يعود أقدم استيطان في مدينة نينوى إلى العصر الحجري النحاسي (فترة حلف)، في حدود الألف السادس قبل الميلاد. تحدها من الجهة الشمالية مدينتان آشوريتان؛ الأولى دور شاروكين (خورسباد)، على بعد 18 كم شمال شرق نينوى، وتربيص التي تقع على بعد 8 كم شمال غرب. ومن الجهة الجنوبية، تحدها مدينة نِمرود (كلخو) على بعد 37 كم، ومدينة آشور على بعد 110 كم.
أكسبها هذا الموقع أهمية استراتيجية، كحلقة وصل بين العواصم والمدن الآشورية، فعَلَا شأن نينوى، ثالث العواصم الآشورية، بعد آشور ونمرود، ووصلت لأوج عظمتها في العصر الآشوري الحديث، ولا سيما في عهد سنحاريب وابنه أسرحدون وحفيده آشور بانيبال.
نينوى الأثرية عبارة عن تلّين يقعان في الجهة الغربية من المحافظة. التل الكبير (قوينجق) الذي اكتُشف في طبقاته عدد كبير من المعابد، ومجموعة من القصور، أهمها قصر سنحاريب (القصر الجنوبي الغربي)، وقصر آشور بانيبال (الشمالي). أظهرت التنقيبات التتابع المتسلسل للطبقات الأثرية، بدءاً من الآشورية في الأعلى، نزولاً إلى البابلية فالسومرية، ثم حضارة جمدة نصر، فالوركاء، والعبيد ثم أخيراً حلف.
التل الآخر هو تل النبي يونس، إلى الجنوب من قوينجق، والذي لم تجرِ فيه تنقيبات وذلك لقدسيته. ففي هذا التل، يقوم مقام النبي يونس وجامعه الأثري والمقبرة الواقعة على أقسام التل الشرقية إلى جانب وجود دور سكنية حول الجامع. إلا أن بعض الأسبار الاستكشافية أشارت إلى وجود أسس قصر أسرحدون في طبقاته.
تعرّض تل النبي يونس إلى أعمال تجريف وتنقيبات غير شرعية على يد "داعش" الذي استخرج كثيراً من الكنوز غير المكتشفة مسبقاً، في وقت يعمل فيه العراق على استرداد آثاره التي هُرّبت في أعقاب حرب 2003. ستصبح هذه المهمة أعقد خلال السنوات الثلاث التي سيطر عليها "داعش" (2014 - 2017)؛ فالآثار غير مسجلة ولا تحمل أرقاماً تسلسلية، وبذلك سيصعب التعرف إلى هويتها، وبالتالي ستكون عملية استرجاعها أكثر صعوبة.
البوابات إلى الخراب
دُمرت العاصمة الآشورية نينوى في عام 612 ق.م، ولكن آثارها بقيت تقاوم التقلبات المناخية والنزاعات البشرية. إلا أن إنسان القرن الواحد والعشرين استطاع فعل ما لم تفعله آلاف السنين. دُمّرت كل من العواصم الآشورية الثلاث (نمرود ودورشاوكين ونينوى). ولم يسلم موقع الحضر (عربايا)، هو الآخر من تخريب "داعش". تميز هذا الموقع بتأثيرات سلوقية وبموقع استراتيجي سيطر على المسالك البرية التجارية والعسكرية المحاذية لنهر دجلة والفرات. تتشابه مملكة عربايا - حسب ما سمتها الكتابات الآرامية - مع كل من تدمر ودوروا أوروبوس، اللتين ازدهرتا في الفترة ذاتها.
إعادة الإحياء
إن اختيار الطريقة التي يُعاد بها بناء مدينة ما بعد الحرب، أمرٌ حاسم في تحديد استمراريتها الحضرية كما التاريخية. يواجه المخططون في أغلب الحالات قيوداً عند موازنة الأولوية، بين الإغاثة العاجلة في حالة الكوارث، وإعادة الإعمار على المدى الطويل؛ الأمر الذي سيساهم في تقويض أركان الحقل الأثري، وينسب قيوده ضمن حدود المنطقة الرمادية، المنطقة ذات الأولوية صفر أمام الاحتياجات الضرورية للبقاء، خاصة عند وجود هذه المدن في بلاد لا تؤدي المؤسسات فيها أي دور فاعل قبل وقوع الكارثة. إلا أن ماهية الزمن وعلاقته مع هذه المواقع، تجعلان من عملية استئصالها أمراً مستحيلاً، فالطبقات التي تختزنها هذه الأرض ذات بعد تراكمي عصي على الدمار، كمدينة الموصل التي تحوي تحت كل حفنة تراب منها طبقات مكدسة من الحضارات.
بدأت أعمال الترميم والبناء في جامعة الموصل بدعم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إذ كانت قد تعرضت لأضرار جسيمة، أسفرت عن تدمير العديد من مبانيها وبنيتها التحتية. وكذلك الأمر بالنسبة للمكتبة المركزية والمسرح الملحقين بالجامعة. أحرق عدد كبير من الكتب والمخطوطات، وسُرب النفيس والنادر ليباع في السوق السوداء، فلطالما عرفت الموصل بمكتباتها وشوراعها الغنية بالكتب والمجلدات المهمة، كشارع النجفي الذي لم ينج أيضاً من أعمال الخراب والتدمير. إلا أن أعمال جمع الكتب وحملات التبرع تنشط الآن لإعادة ما فُقد.
تدعم يونسكو في الموصل القديمة مشروع إعادة إحياء البيوت التراثية والأديرة والكنائس والجوامع والأضرحة، حيث اكتشفت أثناء أعمال الترميم في الجامع النوري أرضيات مصلى قديم أوسع من أرضيات التوسعة التي أُنجزت عام 1942، لذا انتقلت الأعمال لتشمل الترميم والتنقيب.
قوام هذا الجامع صحن تحيط به إيوانات آخرها دُمّر في2017 (وهو إيوان القبلة). يحوي الجامع محراباً ثميناً، بينما الأهم فيه مئذنته الحدباء المتأثرة بالفن السلجوقي والمشيدة بالآجر والغنية بزخارف هندسية. تتألف المئذنة من قاعدة مربعة وبدن أسطواني. ومنها أعلن أبو بكر البغدادي قيام الخلافة.
في فبراير/ شباط 2015، سُربت من قاعات متحف الموصل مشاهد تدمير القطع الأثرية بالمطارق الثقيلة والمعاول. ولاستيعاب بشاعة المنظر، سرت إشاعة حينها بأنهم يدمرون قطعاً مزيفة. منذ عام 2021، تعمل بعثة فرنسية، مع خبراء عراقيين، على ترميم عرش الملك الآشوري (آشور ناصر بال)؛ إذ كان قصره في مدينة كلخو. كما تشارك أعمال إعادة بناء المتحف خبراء عراقيون ومؤسسة سميثسونيان الأميركية.
بينما في المواقع الأثرية، أظهرت حفريات البعثة الألمانية تحت جامع النبي يونس - الذي سيعاد ترميمه هو أيضاً - قاعة عرش الملك أسرحدون الضخمة والمزينة من الداخل بمنحوتات الثيران المجنحة، وألواح جدارية منقوشة بالكتابات المسمارية، والعديد من الآجر المزجج الذي يتيح إعادة بناء واجهة القصر الفخمة.
تغمض الحكومة العراقية أعينها عن كل هذا الإرث وتتركه طي النسيان، بل وتمضي مساعدةً في مسح بعض رموزه الأثرية، كقلعة الموصل (باشطابيا)، ذات الأبراج الدفاعية المتينة، والتي تحتل أعلى نقاط الموصل على نهر دجلة، والمهملة لدرجة أنّ بعض أجزائها انهارت وتحتاج إلى عمليات إسعافية طارئة. في حين طاول التخريب سور مدينة نينوى الأثرية وعدداً من بواباتها (بوابة نرجال التي تحرسها ثيران مجنحة وبوابة أدد). كان للسور شكل شبه منحرف تتوزع أضلاعه الـ18 بوابة، جرف التنظيم أجزاء منه وأكملت الجهات الحكومية اجتثاثه بحجة إقامة طريق في هذه البقعة التاريخية المهمة، متجاهلة الطبقات الموجودة تحت هذا الطريق، والتي قد تحوي اكتشافات مذهلة.
أخيراً، بدأت تنشط في الموصل مجموعات شبابية محلية، تعمل جاهدة على استقطاب الخبرات والبعثات في سبيل انتشال مدينتها المتخمة بالتاريخ والآثار من الركام، مضيئة على تاريخ يُزاح بشكل مدروس وخبيث، لصالح من؟ لا تزال الإجابة معلّقة.