"ميموريا"... نداء من الماضي البعيد

22 يناير 2022
يهتم مخرج "ميموريا" باستكشاف أثر الصوت في إدراك الحياة وتذكّرها (يوتيوب)
+ الخط -

الموت والحياة، الإنسان والطبيعة، معنى الوجود، الحيوات اللامرئية، كلها عوالم تشكّل سينما المخرج التايلندي أبيشاتبونغ ويراسيتاكول. لذا فإن كولومبيا، بكل تعقيداتها الجغرافية والتاريخية، من صراع مسلح وزلازل واكتشافات أثرية ومناجم ذهب وسكان أصليين وخرافات وأساطير قديمة، تبدو بيئة مناسبة لنقل هواجسه في أول فيلم يصوره خارج وطنه.

في "ميموريا" (2021)، تتحرك كاميرا ويراسيتاكول ببطء بين جبال الأنديز وغابات الأمازون والمدن الحديثة، محاولةً إيجاد تفسيرات للذاكرة والتاريخ في سرد غامض قابل لتأويلات مختلفة.

ضجيج مخيف في رأس "جيسيكا" (تيلدا سوينتون)، عالمة النبات الإنكليزية المقيمة في ميديلين (كولومبيا). ضوضاء شديدة متكررة، لا يسمعها غيرها، سبب غامض وراءها يشبه غموض السبب الذي أدى إلى مرض أختها المقيمة في بوغوتا. هناك عوالم لامرئية تنادي "جيسيكا"، وتدفعها لبدء رحلة البحث عن مصدر الصوت؛ ذاك النداء الغريب الذي يوقظها ليلاً ويدفعها للجنون نهاراً.

تحاول "جيسيكا" حل اللغز الصوتي وتنغمس في أسئلة مؤرقة، هل هو حقيقة أم هلوسات سمعية؟ تتجول من بوغوتا إلى الأمازون، وتمر في أماكن مختلفة، كشبح غريب في البلاد، تصورها الكاميرا دائماً من بعيد. عندما تبحث "جيسيكا" عن أصل الصوت، تتكشّف ذاكرتها عن وقائع فردية وجماعية تمر عبر رفات السكان الأصليين وأصوات الطيور وحفيف الأشجار ورياح الغابات وصدى الصراع الدموي الذي ترك أثراً في هذه الأرض.

ومن خلال رحلة وجودية تبحث فيها عن جذور الصوت المخفيّة، تقرأ "جيسيكا" ذاكرة كولومبيا. تقابل في رحلتها أشخاصاً مختلفين؛ الموسيقي الشاب الذي تطلب منه إعطاء شكل ملموس للضجيج المتضارب في رأسها، والطبيبة النفسية التي ترفض إعطاءها دواءً يمنعها من رؤية "جمال العالم وحزن العالم"، بل تقترح حلولاً روحانيّة أو ربما سريالية، وأخيراً الرجل الذي لم يغادر الغابة وربما وحده من يحمل الجواب.

سينما ودراما
التحديثات الحية

في "ميموريا" يبتعد مخرج "العم بونمي يتذكر حيواته السابقة" (2010)، عن فكرة تناسخ الأرواح بين الأجساد، ويهتم باستكشاف أثر الصوت في إدراك الحياة وتذكّرها. فالأصوات القابعة في الأجسام والكائنات هي أصداء للأزمنة السابقة وذاكرة للأحياء والأموات. وفي تجربة حسية تحتضن كل شيء، يحاول ويراسيتاكول إعادة تشكيل هذه الأصداء واكتشاف ألغازها. وبروح تجريبية، يذهب أبعد من ذلك نحو البحث في إمكانية قراءة ذاكرة الأشخاص والأماكن، ما يتيح بناء إرث مشترك من الذكريات تخلق رابطاً حميمياً مع الآخرين وتحيي ذاكرة من آلام وتجارب قد تبقى طي النسيان.

هناك مقاربة بين ما يحدث للأجساد البشرية والطبيعة، فاضطرابات "جيسيكا" السمعية تتزامن مع تقدم مشروع الحفر في سلسلة جبال الأنديز المتاخمة للمدينة. ومثلما يتسبب الثقب المحفور في جمجمة، تعود لآلاف السنين لفتاة من السكان الأصليين، في طرد الشياطين حسب المعتقدات القديمة، تتردد أحاديث عن تسبب أعمال التنقيب في إطلاق الأرواح الشريرة التي تحرس المنطقة. تبدو الذاكرة مع مرور الوقت كما الحلم الذي نفقد مع الوقت القدرة على تذكره تماماً، تتشوه قليلاً وتصبح فائضة أو منقوصة.

في الفيلم هناك أجزاء ضائعة من الذاكرة؛ "هيرنان" الموسيقي الذي لا نتأكد من وجوده، التفاصيل التي نسيتها أخت "جيسيكا" المريضة بعد خروجها من المستشفى، والحوارات والأحداث التي تبدو أحياناً من اختلاق ذاكرة "جيسيكا" فحسب.

بين الصمت الطويل والأصوات الآسرة يأخذنا الفيلم الحائز على جائزة لجنة التحكيم في "مهرجان كانّ السينمائي الدولي" (2021)، في تجربة روحية نرى من خلالها كولومبيا الساحرة الغامضة بجروحها وندوبها وحياتها الريفية والمدنية بلقطات ثابتة بطيئة، ولكنها نابضة بالحياة وقادرة على تفجير أحاسيس تشبه الحلم.

دلالات
المساهمون